توثيق الأوقاف – ودورها في حفظ الحجج والأصول الوقفية
- من الأغراض المهمّة التي تتحقّق بنشر الوثائق الوقفيّة تحفيزُ المسلمين لإحياء سُنَّةِ الوقف بعد اطّلاعهم على التاريخ الخاصّ لهذه الشعيرة الكبيرة
- لابد من الاهتمام البالغ والتفرُّغ لإخراج العدد الأكبر من الحجج الوقفيّة والوثائق المتعلّقة بالأوقاف لِمَا يترتّب على نشرها من فوائد معرفيّةٍ في شتى المجالات
علمِ التوثيقِ خاصّة، وتوثيقِ الأوقافِ على نحوٍ أخصّ عُرفَ مبكّراً؛ فإنّ الثابتَ أنّ عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- وغيرهم من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم -، قد وقَفُوا أوقافاً ووثّقوها بالكتابةِ، وأشهَدُوا عليها، وحُفِظَت هذه الوثائقُ عند ورثتهم، واطّلع عليها من جاء بعد ذلك من الفقهاء والمحدّثين، كمالك والشافعيّ وغيرهما.
بل إنّ الإمام الشافعيَّ -رحمه الله- (ت 204هـ) قد أَوْرَدَ في كتابه (الأم) نموذجًا مقترحًا للوثيقة الوقفيّة، ليحذو حذوَه من أراد أن يوثّق وقْفَه، وما زال الأمر ينمو ويتطوّر، ويتّخذ طابعاً خاصًّا في كلّ حقبةٍ زمنيّةٍ، حتى صار علم التوثيقِ، أو (علم السّجلّات والشروط) واحدًا من العلوم الإسلاميّة التي أُفردَتْ فيها المؤلَّفات، وبرز فيها المتخصّصون.علم السّجلّات والشّروط
قال صِدّيق حسن خان: «علم السّجلّات والشّروط: -وهذا باعتبارِ اللّفظِ- من فروع علم الإنشاء، -وباعتبار مدلولِه- من فروعِ علمِ الفقه، وهو: علمٌ يبحث فيه عن إنشاء الكلماتِ المتعلّقةِ بالأحكام الشرعيّة. وموضوعُه ومنفعتُه ظاهرةٌ، ومباديه: علمُ الإنشاءِ وعلمُ الفقهِ، وله استمدادٌ من العُرْفِ».أرشيف ضخم من الوثائق
واليوم، بعد أزيد من أربعة عشر قرنًا من عمر الأمّة الإسلاميّة، نجد أنفسنا واقفين أمام أرشيفٍ ضخمٍ من الوثائق التي تزخر بها مكتبات العالَم، ولا تزالُ تحتفظُ بكثيرٍ منها دوائرُ الوثائق الرسميّة في دول العالم الإسلاميّ، وسجلّات المحاكم الشرعيّة وأرشيفاتُها، وللوثائق الوقفيّة نصيبٌ كبيرٌ من هذا التراث الضّخم. ولهذا لابد من الاهتمام البالغ والتفرُّغ لإخراج العدد الأكبر من الحجج الوقفيّة والوثائق المتعلّقة بالأوقاف؛ لِمَا يترتّب على نشرها من فوائد معرفيّةٍ في شتى المجالات، ويمكن أن نُجْمِلَها في الآتي: أوّلاً: الفقه فإنّ الوثائق الوقفيّة شكلٌ تطبيقيٌّ لتوثيقِ عقدٍ من عقود التبرُّعات المدروسةِ في الفقه، وهو عَقْدُ (الوقف)، ولا شكّ أنّ هذا الشكل التطبيقيّ قد تطوّر عبر التاريخ تطوُّراً له دَلالاته المتعدّدة، في مجال الفقه النظريّ، وكذلك في مجال أدوات العمل والتطبيق، فضلا عن جانبٍ فقهيٍّ آخر، هو رَصْدُ ما دَاخَلَ العباداتِ من عاداتٍ خاصّة وأنماطٍ في التديُّن والتعبُّد، ترتبطُ بالتأريخِ لتداخُل الثقافات، ودراسة منشأ بعض البِدَع والأمور المُقْحَمَةِ في صُلْب العبادات المشروعة، وغير ذلك. ثانياً: التاريخ فإنّ الوثائق الوقفيّة جُزءٌ من سيرة الواقف، وسيرة المجتمع والمكان، وتتضاعَف قيمتُها لتُصبِحَ جزءاً من سيرةِ الجماعةِ العلميّة في الزمان والمكان المخصوص إذا كان الواقفُ عالمًا أو أديباً أو قاضيًا أو غيرهم من ذوي السّمات المعرفيّة، أو جزءًا من التاريخ السياسيّ إذا كان الواقفُ خليفةً أو أميراً أو قائدًا عسكريًّا. ثالثاً: الجغرافيا فالوثائق الوقفيّة تحتوي على الكثير من أسماء الأماكن، والاتجاهات، والمساحات، والتقاسيم الإداريّة، على نحو مفصّل غالباً يجعل فائدتَها في هذا المجال مضاعفة. رابعاً: الدّيموغرافيا إذ تبيّن المساحات والمنشآت الموقوفة وحدودها، وكذلك الجهات الموقوف عليها، معلوماتٍ كثيرةً ودقيقةً عن سكّانِ موضعٍ ما؛ من حيث أعراقُهُم وانتماءاتُهم الدّينيّة والطائفيّة، وطبيعةُ حياة كلٍّ منهم، وما يغلب على كلّ فئةٍ من الحِرَف والمِهَن والاحتياجات، والفقر والغنى، إلى غير ذلك من المعطيات ذات الدّلالة على الأعداد، والإمكانيّات، والنّزعات الاجتماعيّة. خامسًا: الحياة الاجتماعيّة من حيث تعرُّض الوثائق الوقفيّة بحسب أغراضِ الواقفين واهتماماتهم، إلى قضايا وأحكام وتوجيهات تتعلّق بعلاقات الزواج والطّلاق والرجعة، على نحو يُستشَفُّ منه الكثير حول نِسَب الطّلاق، وعلاقات ما بعد الفُرْقَةِ بين الزوجين والأصهار، ومآل المطلّقات، والنّظرة الاجتماعيّة لهنّ، إلى غير ذلك. سادسًا الحياة الاقتصاديّة فممّا تَشِي به الوثائق الوقفيّة، بل تنطق به صراحةً في أحيانٍ كثيرة، معدّلات الدّخل، والمستويات الاجتماعيّة، والمِهَن ذات الدّخل المرتفع والأخرى ذات الدّخل المنخفض، والعملات المستعملة، وقيمتها الشرائيّة، والأمن الغذائي، والاستيراد والتصدير، ووفرة الموادّ الخام من عدمها، وغير ذلك كثير. سابعًا: العلوم العسكريّة فالوثائقُ الوقفيّة، إذا كانت توثّق وقْفًا مباشراً لمعدّات الحرب، أو وقْفًا عليها، فإنّها توفّر الكثير من المعلومات التفصيليّة عن الأسلحة، ووظائفها، وطريقة عملها، وصيانتها، وعدد الكادر اللازم لتشغيل كلٍّ منها، وذخائرها، ومداها، ووظائفها الدّفاعيّة أو الهجوميّة، وكيف تُصنَّعُ؟ ومن أين تُجلَب؟ وطرق نقلها وترحيلها، وتكاليف ذلك كلّه. ثامنًا: اللّغة فإنّ الدّراسات اللغويّة -فضلا عن- عنايتها بمفردات اللغة الأصليّة وجذورها الأوليّة، تعتني بما يَعْرِضُ لتلك الألفاظ من بِلًى ونحتٍ واشتقاقات مولَّدةٍ تنشأ في السياق الاجتماعيّ العامّ، وفي السياقات الاجتماعيّة الخاصّة، فيما تختصّ به بعض الطوائف الدينيّة أو يختصّ به أهل إقليمٍ أو حرفةٍ أو صنعةٍ أو مهنة. كما تُعَدُّ الوثائقُ الوقفيّة فنًّا مستقلًّا من فنون الإنشاء والمُخاطَبات القضائيّة التي يُستكشَف من خلالها أساليب الخطاب والوصف والاستعارات السائدة في مرحلةٍ ما، ويُعرَف من خلالها ما تتّسم به لغة التوثيق والتدوين من غلَبَةِ المسحة الأدبيّة، أو ما يُغايِر ذلك من اللغة الرسميّة التقنيّة ذات الدّلالات المحدَّدة، إلى غير ذلك من إفادات. تاسعًا: الحياة العلميّة فإنّ مدى توجُّه الواقفين في حقبةٍ ما إلى الوقف على العلوم، يُنبِئُ عن درجة التفاتِ شرائحِ الواقفين المختلفةِ إلى العلومِ عموماً، كما يمكن أن يُحدَّد بواسطةِ ذلك أيُّ العلوم هي التي حظيت بالاهتمام الأكبر، إيمانًا من الواقفين بأهمّيّتها وعُمق تأثيرها في المجتمع ومسيرة الأُمَّة، وحجم ما حظيت به من الخدمة والإنفاق على تنميتها وتطويرها، وتأثير ذلك على التأريخ لهذه العلوم في مختلَف أطوارها. عاشرًا: مظاهر الحياة العامّة أي: ما يتعامل به النّاس في يوميّاتهم وتفاصيل دخولهم وخروجهم، وما يتعاطونه من الطعام والشراب ووسائل الترفيه وما يصحب ذلك من مظاهر ثقافيّة، بل بعض ما اعتادوه من عادات خاصّة في الأفراح والأتراح، وما يصنعونه لكلٍّ منها من الأطعمة والأشربة المعبِّرَة عن رؤيتهم ونظرتهم لمثل هذه الأحداث وأبعادها. حادي عشر: القيمة القانونيّة إذ تمثّل هذه الوثائق القائمةُ إلى اليوم، البيّنة القانونيّة المعتبرة على وقفيّة الأوقاف المثبّتة فيها؛ فالباقي منها في حيّز العمل، تُجَدَّدُ الثقة بوضعه القانونيّ باعتباره وقْفًا عندما يُطّلَع على الحجّة الدّالّة على ذلك، وما اندثر وضاع، فإنّ هذه الوثائق تشكّل حجّة قانونيّة وأخلاقيّةً عامَّةً للأمّة الإسلاميّة على إسلاميّة كثير من البقاع التي آلت إلى سيطرة غير المسلمين وحكمهم، في أرجاء العالَم كافة، ولا سيما ما كان تحت إدارة المسلمين وحكمهم يومًا ما.أهمية نشر الوثائق الوقفية
وأخيرًا: فإنّ من الأغراض المهمّة التي تتحقّق بنشر الوثائق الوقفيّة، ولا سيما المتعلّقة بالأوقاف المشهورة في أماكن متعدّدة، تحفيزُ المسلمين لإحياء سُنَّةِ الوقف، بعد اطّلاعهم على التاريخ الخاصّ لهذه الشعيرة الكبيرة، وقناعتهم بمدى حضورها وتأثيرها في حياتهم العامّة والخاصّة، على نحوٍ لم يكن ليحظى بالإدراك والتصوُّر الكافي، دون العناية العلميّة بهذا النوع من الوثائق.
لاتوجد تعليقات