أدّب ولدك بالأمثال (6) المزاحة تذهب المهابة
- كان مزاح النبي صلى الله عليه وسلم قليلا لا يخرج عن جادة الصدق والحق
- تعددت أمثال العرب في التحذير من كثرة المزاح وما يؤول إليه من الشر والفساد كقولهم: المُزاحُ لِقاحُ الضَّغائِنِ
- المطلوب من المسلم الاعتدال في شأنه كله ومن ذلك الاقتصاد في المزاح دون مبالغة في تركه أو الانغماس فيه
من لوازم مخالطة الناس والاجتماع معهم التلطف في القول، والتبسط في الكلام، وذكر الأخبار المضحكة، والمواقف الظريفة، ليطيب المجلس، ويحلو السمر، وتزول الوحشة، وتذهب السآمة، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس»، وقيل للخليل بن أحمد: إنك تمازح الناس؟ فقال: «الناس في سجن ما لم يتمازحوا».
إلا أن بعض الناس لا توسط عنده ولا اعتدال، ولا يعرف الفرق بين المزاح والسخرية، ولا بين الملاطفة والإيذاء، فيتمادى في هزله، ويبالغ في عبثه، ويطلق لسانه، وقد يفحش في قوله؛ مما يفتح باب الشر، ويوقد نار القطيعة.أمثلة العرب في النهي عن المزاح
ومن هنا يأتي أهمية هذا المثل الذي قاله أكثم بن صيفي -وهو من أشهر حكماء العرب قبل الإسلام-: «المزاحة تذهب المهابة»، وقد تعددت أمثال العرب في التحذير من كثرة المزاح وما يؤول إليه من الشر والفساد، كقولهم: «المُزاحُ لِقاحُ الضَّغائِنِ»، وقولهم: «لو كان المُزاحُ فَحلًا لكان الشَّرُّ له نَسلًا»، وقولهم: «لكُلِّ شَيءٍ بَذرٌ، وبَذرُ العَداوةِ المُزاحُ».مزاح النبي - صلى الله عليه وسلم
ولعل قائلا يقول: قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمازح أصحابه، فقد عقد البخاري في صحيحه (باب الانبساط إلى الناس والدعابة مع الأهل) وذكر حديث أنس - رضي الله عنه - قال: إنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا، حتى إنْ كان ليقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير ما فعل النغير» متفق عليه. وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا ذا الأذنين» يعني مازحه. أخرجه الترمذي وصححه الألباني، وعنه أن رجلا استحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أي: طلب منه حمولة يركبها) فقال: «إني حاملك على ولد الناقة»، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وهل تلد الإبل إلا النوق؟!» أخرجه الترمذي وصححه الألباني، والأمثلة من سيرته العطرة في مزاحه مع أزواجه وأصحابه عديدة، مما يدل على جميل مداعباته ولطيف أخلاقه - صلى الله عليه وسلم .مزاح لا يخرج عن جادة الصدق والحق
ومع ذلك فقد كان مزاحه قليلا لا يخرج عن جادة الصدق والحق، فعن أبي هريرة: قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّكَ تداعِبُنا؟ قالَ: «إنِّي لا أقولُ إلَّا حقًّا» أي: عدلا وصدقا لعصمتي عن الزلل في القول والفعل. أخرجه الترمذي وصححه الألباني، قال في شرح الترمذي: «وكأنهم استبعدوا ذلك منه لذلك أكدوا الكلام بـ(إنّ)، والأظهر أن منشأ سؤالهم أنه نهاهم عن كثرة المزاح».الأحاديث والآثار في النهي عن المزاح
وفي المقابل تجد بعض الأحاديث والآثار في النهي عن المزاح والضحك كقوله: «إياك وكثرة الضحك! فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه». رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني. وقوله: «لا يأخُذْ أحدُكم مَتاعَ أخيه جادًّا ولا لاعبًا». وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له» أخرجه أبو داود عن معاوية بن حيدة وحسنه الألباني.المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة
قال ابن حجر: «والجمع بينهما، أن المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشغل عن ذكر الله، والتفكر في مهمات الدين، ويؤول كثيرا إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة، مثل تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب». وسئل بدر الدين الغزي عن المزاح، وما يكره منه وما يباح؛ فقال: «إنه مندوب إليه بين الإخوان، والأصدقاء والخلان؛ لما فيه من ترويح القلوب، والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة، ولا انهماك فيه يسقط الحشمة، ويقلل الهيبة، ولا فحش يورث الضغينة، ويحرك الحقود الكمينة».الاعتدال في الأمر كله
فالمطلوب من المسلم الاعتدال في شأنه كله، ومن ذلك الاقتصاد في المزاح دون مبالغة في تركه أو الانغماس فيه، قال ابن حبان البستي: «الواجب على العاقل أن يستميل قلوب الناس إليه بالمزاح وترك التعبس، والمزاح على ضربين؛ فمزاح محمود ومزاح مذموم. فأما المزاح المحمود فهو الذي لا يشوبه مَا كره اللَّه -عز وجل-، ولا يكون بإثم ولا قطيعة رحم. وأما المزاح المذموم فالذي يثير العداوة، ويذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويجرئ الدنيء عليه، ويحقد الشريف به».واقع الناس
ومن يتأمل واقع الناس، يجد أن كثيرا من الخلافات والمنازعات التي قد تصل إلى إتلاف الأنفس والأموال سببها تجاوز الحد في المزاح إلى درجة الإساءة والإيذاء؛ لذا حذر السابقون من كثرة المزاح وما يجر من سقوط الهيبة، وجرأة السفهاء، وبذر الضغينة. قال عمر - رضي الله عنه -: «مَن كَثُرَ ضحكُه قلَّت هيبتُه، ومَن مزح استُخِفَّ به، ومَن أكثر من شيءٍ عُرِفَ به، ومَن كَثُرَ كلامُه كثر سقطه، ومَن كثر سقطُه قلَّ حياؤه، ومَن قلَّ حياؤه قلَّ ورَعُه، ومَن قَلَّ ورعه مات قلبُه». وقال عمر بن عبد العزيز: «إياك والمُزَاح! فإنه يَجُرُّ إلى القبيحة، ويورث الضغينة». ونقل عن سعيد بن العاص أنه قال لابنه: «اقتصد في مزحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين». وقال ربيعة: «إياكم والمزاح! فإنه يفسد المودة، ويغل الصدر».لا تمازح الوضيع
عن عبد الله ابن حبيق قَالَ: «كان يقال: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا تمازح الوضيع فيجترئ عليك». عَن الحكم قَالَ: «كان يقال: لاتمار صديقك ولا تمازحه»، فإن مجاهدا كان له صديق فمازحه، فأعرض كل واحد منهما عَن صاحبه فما زاده عَن السلام حتى مات. وقال أبو حاتم: «المزاح إذا كان فيه إثم فهو يسود الوجه، ويدمي القلب، ويورث البغضاء، ويحيي الضغين، وإذا كان من غير معصية يسلى الهم، ويرقع الخلة، ويحيي النفوس، ويذهب الحشمة، فالواجب على العاقل أن يستعمل من المزاح مَا ينسب بفعله إلى الحلاوة، ولا ينوي به أذى أحد، ولا سرور أحد بمساءة أحد».
لاتوجد تعليقات