موقف المسلم من الفتن 1
هذه محاضرة ألقاها الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- يوم الاثنين الرابع من شهر محرم عام خمسة عشر وأربع مئة وألف، خلال الاحتفاء بالمسابقة التي جرت في مسائل تتعلق بالعقيدة في جامع الأمير خالد بن سعود في مدينة الرياض.
أدلة الكتاب والسنة سدت كل الذرائع المؤدية للفتنـة خيـر كانـت أم شــر
- جاءت النصوص بسد جميع الذرائع التي تؤدي إلى الفتنة بالنساء فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تسافر امرأة بلا محرم ونهى أن يخلو رجل بامرأة بلا محرم
- الفتنة تكون بالخير بما ينعم الله به على العبد من صحة في البدن وسلامة في العقل ونمو في المال وكثرة في الأموال
- فتنة الغنى قد تكون أشد فتنة من الفقر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا
- من الفتنة في المأكل والمشرب: أن ييسر للإنسان أكل الحرام، ويسهل له، فإن ذلك من الفتنة
- سد النبي [ كل باب وكل طريق يوصل إلى الربا حتى جعل بيع العينة من أسباب الذل للأمة
- موقف الإنسان من فتنة الشر أن يصبر ويحتسب وينتظر الأجر من الله تعالى
- فتنة النساءلها أسباب ولها دواع، وكلما كثرت أسبابها ودواعيها، وانتفت موانعها كانت الفتنة بها أشد وأعظم
- بعض الناس يرى من نفسه أنه يكره الطاعات، وأنه يحب المعاصي، وهذه فتنة عظيمة ترد على القلب، والواجب على المرء إذا أحس بذلك أن يعالج نفسه فورا؛ حتى لا يتمكن هذا المرض من قلبه
- الرضا حال أكمل من الصبر، والفرق بين الراضي والصابر: أن الراضي تستوي عنده المصيبة وعدمها، ولا يتمنى أكثر مما قدره الله عليه
الفتنة تكون بالخير بما ينعم الله به على العبد من صحة في البدن، وسلامة في العقل، ونمو في المال، وكثرة في الأموال، وغير ذلك، وهذه الفتنة قد تكون أشد فتنة من الفقر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
أولا: الفتنة التي تكون بالخير
هذه الفتنة تكون أولا فيما يتعلق بالشهوات المختلفة من حاجة البدن من الطعام والرغبات: (1) فتنة النساء أما فتنة النساء، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء»، وقال: «إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»، وهذه الفتنة لها أسباب ولها دواع، وكلما كثرت أسبابها ودواعيها، وانتفت موانعها كانت الفتنة بها أشد وأعظم. فمن الأسباب مثلا: أن تخرج النساء سافرات الوجوه، متجملات الثياب، متتطيبات الرائحة، في الأسواق وتخالط الرجال، فإن هذا من أسباب الشر والفتن؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في النساء اللاتي يخرجن إلى المساجد للعبادة والصلاة قال: «وليخرجن تفلات» أي: غير مطيبات ولا متبرجات بزينة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة»، وإنما خص هذه الصلاة بناء على الواقع، وإلا فجميع الصلوات مثل صلاة العشاء، فأيما امرأة أصابت بخورا فلا تخرج من بيتها لا إلى المساجد، ولا إلى المدارس، ولا إلى قضاء الحاجات، بل تخرج غير متطيبة ولا متبرجة بزينة؛ لأنها إن خرجت متطيبة أو متبرجة بزينة كان ذلك من أسباب الشر والفتنة.سد الذرائع التي تؤدي إلى الفتنة
ولذلك جاءت النصوص بسد جميع الذرائع التي تؤدي إلى هذه الفتنة، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر امرأة بلا محرم، ونهى أن يخلو رجل بامرأة بلا محرم؛ لأن السفر مظنة البلاء والشر والفتنة، فكان لا بد أن يكون للمرأة محرم إذا سافرت، سواء سافرت إلى عبادة كالحج والعمرة، أم إلى زيارة قريب أم إلى عيادة مريض، أم إلى أي غرض من الأغراض، فإنها لا تسافر إلا بمحرم؛ خوفا من الفتنة. ولقد تساهلت النساء اليوم في هذا، فصار بعضهن يسافرن بلا محرم، بناء على الثقة بأنفسهن، وعلى الثقة في من يصحبهن في السفر، وهذه الثقة إذا قدر السلامة معها فإنه قد يأتي سفر لا يمكن أن تكون السلامة معه؛ ولهذا لما خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم»، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك»، ولم يقل له: هل المرأة شابة أم عجوز؟ هل هي جميلة أم قبيحة؟ هل معها نساء أم لم يكن معها نساء؟ هل هي آمنة أم خائفة؟ بل قال: اترك الغزو، وانطلق، وحج مع امرأتك.(2) فتنة المأكل والمشرب
ومن الفتن في شهوة المأكل والمشرب: الربا، والربا ربح يسير سهل، وربما يكون كثيرا، يكون فيه المطمع، فالنفس تفتتن به؛ لأنه لا يحتاج إلى عناء، فالمرابي مثلا يتعامل بالربا وهو جالس على كرسيه، ويحصل على الفائدة، وربما تكون كثيرة، ثم إنه يكثر الورود عليه إذا فتح الباب للناس وافتتنوا به، ولهذا جاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه وبيان خطره: قال الله -تبارك و-تعالى--: {يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (البقرة: ۲۷۸-۲۷۹) وأخبر أن من عاد إلى الربا بعد العلم فإنه من أصحاب النار، فقال: {ومن عاد فأوليك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: ٢٧٥)، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء». واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.سد الطريق إلى الربا
وقد سد النبي - صلى الله عليه وسلم - كل باب وكل طريق يوصل إليه، حتى جعل بيع العينة من أسباب الذل للأمة؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد - سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من قلوبكم حتى ترجعوا إلى دينكم». والعينة هي تحايل على الربا، صورتها الإباحة وهي حرام. مثالها: أن تبيع على شخص سلعة بمئة ألف إلى أجل، ثم تشتريها منه نقدا بثمانين ألفا، فصورة هذه المعاملة صورة مباحة: بعت عليه بينا بمئة ألف إلى سنة أو سنتين، ثم اشتريته نقدا بثمانين، فهذا بيع وشراء، لكن حقيقته أنني أعطيته ثمانين بمئة، وأدخلت هذا العقد الصوري بين هذا وهذا، أي: جعلت ظاهره الصحة، ولكن حقيقته البطلان، فكل حيلة يتحيل بها الإنسان على الربا فإنها لا تمنعه من الوقوع في إثمه.تيسير أكل الحرام
ومن الفتنة في المأكل والمشرب أيضا: أن ييسر للإنسان أكل الحرام، ويسهل له، فإن ذلك من الفتنة؛ فقد ييسر الله لك الحرام؛ ليعلم -عزوجل- هل تخافه أو لا تخافه؟ وأضرب مثلا لذلك في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (المائدة: ٩٤)، معنى الآية: أن المحرم يحرم عليه الصيد؛ لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: ٩٥)، فأراد الله -تعالى- أن يبتلي الصحابة بشيء من الصيد تناله الأيدي والرماح، فتناله الأيدي إن كان من السائر، وتناله الرماح إن كان من الطائر، مع أن الأصل أن السائر لا يناله إلا الرمح، والطائر لا يناله إلا السهم، لكن الله يسر وسهل نيل هذا الصيد ليعلم من يخافه بالغيب، وكان الذي حصل أن الصحابة -رضوان الله عليهم- ما صادوا ولا طائرا ولا أرنبا؛ لأنهم يخشون الله بالغيب مع تيسر المحرم عليهم، لكنهم خافوا الله -عزوجل- وتركوه، فاحذر إذا يسر الله لك أمر المعصية أن تعصي الله!ثانيا: الفتنة التي تكون بالشر
وهذه الفتنة تكون فيما يتعلق بالدين والنفس. (1) الفتنة بالمصيبة في الدين قد يفتن المرء في دينه بمصيبة تقع عليه، فيخرج بها من الدين - والعياذ بالله - من حيث لا يشعر، تصيبه المصيبة في نفسه بمرض، فيتسخط على الله، ويرى أن الله قد ظلمه، ولا يصبر على هذه المصيبة، بل يتسخط من قضاء مولاه وربه -عزوجل- مع أن الحكم لله العلي الكبير، وإلى هذا يشير قوله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الحج: ١١) معنى {عَلَى حَرْفٍ} أي: على جانب وعلى طرف فليست العبادة متمكنة في قلبه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: ١١). فما موقف الإنسان من فتنة الشر؟ الجواب: موقف الإنسان من فتنة الشر أن يصبر ويحتسب، وينتظر الأجر من الله قال -تعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:١٠)؛ ولهذا قال العلماء: إن الإنسان عند المصيبة له أربع حالات:- الحال الأولى: السخط على الله -عزوجل-؛ حيث قدر عليه المصيبة.
- الحال الثانية: الصبر، فيتذوق مرارة المصيبة، ولا تكون سهلة عليه، بل هي صعبة، ويتمنى أنها لم تصبه، لكن يصبر، ولا يكون في قلبه جزع على الله، ولا تسخط منه، ولا في لسانه قول محرم، ولا في أفعاله فعل محرم، فلا لطم في الخدود، ولا نتف في الشعور، ولا شق في الجيوب، لكنه راض صابر محتسب.
- الحال الثالثة: الرضا بالمصيبة، والرضا حال أكمل من الصبر، والفرق بين الراضي والصابر: أن الراضي تستوي عنده المصيبة وعدمها، ولا يتمنى أكثر مما قدره الله عليه، وأما الصابر فقد أثرت فيه المصيبة، ويتمنى أنها لم تكن، وليست بالهينة عليه، لكنه يصبر، فيحبس نفسه عن المحرم القلبي والقولي والفعلي. وأما الراضي فيقول: يفعل ربي ما يشاء، وأنا راض مطمئن، والمصيبة وعدمها عندي سواء، ولكن اعلم أن الحزن لا ينافي الرضا؛ ولهذا وقع الحزن من الرسول حين مات ابنه إبراهيم - رضي الله عنه - فقال - صلى الله عليه وسلم -: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزنون».
- الحال الرابعة: الشكر، فكيف يكون الشكر على المصيبة؟ وهل يتصور أن يشكر الإنسان ربه على المصيبة؟
مصيبة الدين
بعض الناس يرى من نفسه أنه يكره الطاعات، وأنه يحب المعاصي، وهذه فتنة عظيمة ترد على القلب، والواجب على المرء إذا أحس بذلك أن يعالج نفسه فورا؛ حتى لا يتمكن هذا المرض -الذي هو سرطان الدين- في قلبه، فيخرج من الإيمان وهو لا يشعر. والدواء لهذا المرض الخطير هو ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الوصفة الدوائية لا تظنوها مجلدات أو أسفارا كثيرة، بل هي في كلمتين فقط، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فليستعذ بالله ولينته»، فهاتان الكلمتان تقضيان على هذا الداء العضال، والواصف لهما هو الرسول الذي هو أعلم الناس بأمراض القلوب ودوائها، فإذا أحسست بنفسك أنك تكره شيئا من طاعة الله، أو أن لديك شكا في أمر من الأمور اليقينية، فالدواء بهدين الشيئين، وهما:- الأول: الاستعاذة بالله، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرحيم؛ لأن الله -تعالى- قال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (الأعراف: ٢٠٠).
- الثاني: الانتهاء، بأن تعرض عن هذا، وانزعه من قلبك، وتناساه، وتغافل عنه، وبذلك يزول؛ لأن الواصف للدواء أعلم الناس به، وأنصح الناس لعباد الله، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
لاتوجد تعليقات