قواعد وأصول مهمة (1) خطورة تكفير أئمة الإسلا م..
من الظواهر الخطيرة التي تفشَّت مؤخَّرًا بين بعض الشباب، ظاهرة الطعنِ في كثير من الأئمة الذين اتُّفِقَ على مكانتهم وصدقهم وعدالتهم وعِلمهم وأمانتهم ورسوخ قدمهم، كالإمام أبي حنيفة والإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهم من أئمة الإسلام والعلماء الأعلام رحمهم الله جميعًا، وهذه الفتنة كانت قد أطلَّت بقرنها منذ عقودٍ يسيرةٍ، وظهر من يجهَر بلا خوفٍ ولا حياءٍ بالطعن في هؤلاء الأئمّة الأعلام، بل ويكفِّر طائفةً منهم كالإمام النووي والحافظ ابن حجر، ويَدعُو لحرق كُتُبهما وتحريم النظر فيها؛ بدعوى أنهما من الأشاعرة، وأن الأشاعرة جهمية، وأن السلف متَّفقون على تكفير الجهميّة، وتصدى حينها أهل العلم لهذه الفتنة، فأخمدوها في مهدها، قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد -رحمه الله- في رسالته التي صنفها للتصدِّي لهذه الفتنة: «تلك البادِرة الملعونة من تكفير الأئمة (النووي وابن دقيق العيد وابن حجر العسقلاني) -رحمهم الله تعالى- أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضُلَّال، كل هذا من عمل الشيطان، وبابُ ضلالةٍ وإضلال، وفسادٍ وإفسادٍ، وإذا جُرح شهود الشّرع جُرح المشهودُ به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبَّتون.
حرمة أهل العلم
وصنَّف فيها كذلك الدكتور محمد إسماعيل المقدم -حفظه الله- كتابه (حرمة أهل العلم) الذي ردّ فيه على هذه الفتنة، فقال: «وهذا أحدُهم قد طوَّعت له نفسُه أن يُطلق لسانه بشتم بعض العلماء والإزدراء بهم، فلا يراهم إلا من خلال منظار أسودَ قاتمٍ، لا يرى حسنة إلا وقد اصطبغت بالسواد، وكأنه لم يَبق عالم يملأ عينَيه أو يحترمه، مع أنه يتعسَّف ويتهوَّر في إطلاق التُّهم، ويجازف في توزيع الأحكام بالبدعة والضلال، ويندفع في تعميم أحكامه بصورة لا تشمّ رائحة الانضباط العلمي الدقيق، وهو يحسب أن انتصاره للحق ودفاعه عن عقيدة السلف يسوِّغان له الجفاء والتهوُّر.. فتراه يحكي القول بتكفير أبي حنيفة ولا ينكره.. ومن ذلك: أنه نقل عن السلف تكفيرَ الجهمية، ثم عقَّب ذلك بالتنبيه على أن الأشاعرة من الجهمية، فينتج أنَّ الأشاعرة كفار.
تصدَّى كبار العلماء لهذه الفتنة
وتصدَّى لذلك كبار العلماء، وحذَّروا من هذه الفتنة، فقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: ما هو موقفنا من العلماء الذين أوَّلوا في الصفات، مثل ابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم؟ هل نعدهم من أئمة أهل السنَّة والجماعة أم ماذا؟ وهل نقول: إنهم أخطؤوا في تأويلاتهم، أم كانوا ضالين في ذلك؟
فأجابوا: «موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأوَّل بعض صفات الله -تعالى-، أو فوَّضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمّة بعلمهم، فرحمهم الله رحمةً واسعةً، وجزاهم عنا خيرَ الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة -رضي الله عنهم- وأئمَّة السلف في القرون الثلاثة التي شهِد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأوَّلوه من نصوص الصفات، وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة -رحمهم الله-، سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال، أم بعض ذلك. وبالله التوفيق.
رد الشيخ ابن باز -رحمه الله
وقال الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله رادًّا على منِ اتهم السلفيين بتكفير العلماء الأشاعرة كالحافظ ابن حجر رحمه الله-: «ليس من أهل العلم السلفيّين من يكفِّر هؤلاء الذين ذكرتهم، وإنّما يوضِّحون أخطاءهم في تأويل الكثير من الصفات، ويوضِّحون أنَّ ذلك خلافُ مذهب سلف الأمة، وليس ذلك تكفيرًا لهم، ولا تمزيقًا لشمل الأمة، ولا تفريقًا لصفِّهم، وإنما في ذلك النصحُ لله ولعباده، وبيانُ الحق».
رد الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «هناك علماء مشهودٌ لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة من أهل البدع، لكن في كلامهم شيءٌ من كلام أهل البدع، مثل ابن حجر العسقلاني والنووي -رحمهما الله- فإنّ بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يُحْرَقَ (فتح الباري)؛ لأن ابن حجر أشعريّ، وهذا غير صحيح؛ فهذان الرجلان بالذات ما أعلمُ اليوم أنَّ أحدًا قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدَّماه، ويدلّك على أنّ الله -سبحانه وتعالى بحوله وقوّته ولا أَتَأَلّى على الله- قد قَبِلها: ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس، لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب (رياض الصالحين) يُقرأ في كلّ مجلس، ويُقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعًا عظيمًا، وأتمنى أن يجعل الله لي كتابًا مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته، وفي مسجده، فكيف يُقال عن هذين: إنهما مبتِدعان ضالَّان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما، ويجب إحراق (فتح الباري)، و(شرح صحيح مسلم)؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال، وبلسان المقال: أَقِلُّوا عليهمُ لا أبا لأبيكمُ مِن اللومِ أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا.
من كان يستطيع أن يقدِّم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان إلا أن يشاء الله؟! فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين».
رد الشيخ الألباني -رحمه الله
وقال الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: «لذلك نحن ننصَح شبابنا أن يلتزموا العمل بالكتاب والسنة في حدود علمهم، ولا يتطاولوا على غيرهم ممن لا يقرنون بهم علمًا وفهمًا، وربما صلاحًا، فمثل النووي ومثل الحافظ ابن حجر العسقلاني أعطنا اليوم في العالم الإسلامي كله مثل هذين الرجلين... فمثل النووي وابن حجر العسقلاني وأمثالهم من الظلم أن يقال عنهم: إنّهم من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من (الأشاعرة)، لكنّهما ما قصدوا مخالفة الكتاب والسنَّة، وإنما وهِموا، وظنُّوا أنّ ما ورثوه من العقيدة الأشعرية، ظنوا شيئين اثنين: أولًا: أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلَّا قديمًا لأنه رجع عنه. وثانيًا: توهموه صوابًا، وليس بصواب.
وأنت ترى في هذه الكلماتِ القوية من كبار علماء السلفيين أنهم بريئون من تكفير علماء الإسلام أو تبديعهم وتضليلهم، وأنهم مع ذلك لم يداهنوا في العقيدة، ولا سكتوا عن الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء العلماء الأعلام، كتأويل الصفات، بل بيَّنوا خطأهم في ذلك، مع الحفاظ على قدرهم ومنزلتهم، فليس الأمر كما يصوِّر هؤلاء الغلاة أنَّ عدم تكفير هؤلاء الأئمة أو تضليلهم هو من تقديم حقِّ المخلوق على حقِّ الله -تعالى-، كما يخدعون بذلك الشباب الأحداث، متوهِّمين أنهم وحدهم الذين قاموا ببيان حقِّ الله -تعالى- والدفاع عن عقيدة السلف بتكفيرهم لأئمة الإسلام وحفاظه الأعلام!
العلماء يردُّون الخطأ على صاحبه
فالعلماء يردُّون الخطأ على صاحبه كائنًا من كان؛ فليس هناك معصومٌ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يفرِّقون بين من له قدم صدق في الإسلام، وظهر فضله وخيره، ولم يكن خطؤه ناشئًا عن عناد، أو ردٍّ للكتاب والسنة، ومن هو رأس في البدعة، داعية إليها، ينطلق من أصولٍ منابذة للكتاب والسنة، فلا يسَوّون بين الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وبشر المريسي وأمثالهم من رؤوس الجهمية، والإمام النووي وابن حجر وابن الجوزي وأمثالهم من أئمة الفقه والدين، ولكنهم أخطؤوا في بعض المسائل. ففي مثل هؤلاء يقولون: إذا بلغ الماء قلتين لم يحملِ الخبث».
ورغمَ هذا البيان الواضح من كبار العلماء، إلا أنّه سعى بعض الغلاة من حدثاء الأسنان في إحياء هذه الفتنة الملعونة (تكفير الأئمة وتضليلهم) مرة أخرى، بهذه الحجج والمقدِّمات، وهي:
- أن هؤلاء العلماء كانوا من الأشاعرة، نفاة العلوّ والاستواء.
- وأن الأشاعرة من الجهمية.
- وأن السلف متَّفقون على تكفير الجهمية نفاةِ العلو، فينتج عن ذلك تكفير هؤلاء الأئمة، أو على أقل تقدير: اعتبار تكفيرهم قولًا سائغًا، لا إنكار فيه على صاحبه.
أغمار لم يُعرفوا بالرسوخ في العلم
ورغم أنه يكفي لرد هذه البدعة أنه لا قائلَ بها من العلماء المعتبَرين، بل ما روّجها إلا أغمار لم يعرفوا بالرسوخ في العلم؛ ولذلك لا تجد لها رواجًا إلا بين الأحداث الصغار ومن شابههم من الجهال، حتى إنهم لا يقنعون بكلام كبار العلماء المعاصرين كابن باز وابن عثيمين والألباني وعبدالرزاق عفيفي والمعلمي اليماني والأمين الشنقيطي وغيرهم كثير من عامة العلماء السلفيين المعاصرين، بل ولا بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره، ظانين بأنفسهم أنهم أعلم بمنهج السلف وطريقتهم من كل هؤلاء!
أقول: رغم ذلك إلا أننا سنبين -بعون الله تعالى- فسادَ هذه المقدمات، والنتيجة التي بنيت عليها في الحلقات القادمة إن شاء الله.
لاتوجد تعليقات