البشائر النبوية للأعمال الخيرية (18) المعروف صدقة
أخرج البخاريّ -رحمه الله- (6021) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، ومسلم (1005) عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-، كلاهما عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «كلُّ معروفٍ صدقة». إنّ الشريعةَ المطهّرة الموحى بها من عند الله -تعالى- كتاباً وسُنَّةً، جاءت بكلّ حكمٍ حقّ في العقائد والأحكام والأخلاق والآداب، وجاءت ضمنِ ذلك بنَقْل بعض المفرداتِ التي كانت معرفةً في لغة العرب إلى معانٍ أخصّ من المعنى المشهور المتداوَل على ألسنةِ النّاس، وذلك مثل ألفاظ «الصلاة» و»الصيام» اللّذين انصرفَ كلٌّ منهما إلى هيئةٍ شرعيّةٍ خاصّة، ومن هذه المفردات: «الصدقة».
الصّدقة لها معنى خاصّ
فعلى الرّغم من أنَّ الصّدقة لها معنى خاصّ، هو إعطاءُ المالِ لفقيرٍ بلا مقابلٍ على وجه التقرُّب إلى الله، فقد وردت في السُّنَّةِ المطهّرة عدّة نصوص تصفُ أعمالاً صالحةً بأنّها «صدقة»، ومن أشهر هذه النّصوص ما أخرجه البخاري (2989) ومسلم (1009) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -[- قال: «كلُّ سُلامى من النّاسِ عليه صدقة، كلَّ يوم تطلع فيه الشمس، يعدِل بين الاثنين صَدَقَة، ويُعين الرّجل على دابّته فيحمِل عليها، أو يرفع عليها متاعَه صَدَقَة، والكلمة الطيّبة صدقة، وكلُّ خطوة يخطوها إلى الصّلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة».
أهمية أخلاقيّة وإصلاحيّة
فهذه الأفعالُ في هذا الحديثِ الشريفِ لأهمّيّتها الأخلاقيّة والإصلاحيّة حازت فضيلةَ الصّدقةِ وإن لم تكن شبيهةً بالصّدقةِ من حيثُ طبيعتها المادّيّة، فهي ليست من قَبيلِ الصّدقةِ بتعريفها الذي مضى، أمّا الحديثُ المبشِّرُ الذي معنا، فإنَّ فيه أنَّ كلَّ معروفٍ صدقة، وهذا ما لا يملكُ المسلمُ أمامَه سوى أن يقول، الحمدِ لله على عظيمِ فضلِه.
قال القاضي عياض: «كل معروف صدقة: أي له حكمُها في الثّواب عند الله». (إكمال المُعلم 3/527).
اسمٌ لكلّ فعل يُعرف حُسْنُهُ
وقال التوربشتي في تقريرٍ نَفيس: «المعروف اسمٌ لكلّ فعل يُعرف حُسْنُهُ بالشّرع، أو يُعرف بالعقل من غير أنْ ينازع فيه الشّرع، وكذلك القول المعروف...والصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القُرْبَة، وذلك لأنّ عليه أنْ يتحرَّى الصّدق فيها...فقولُه: كلُّ معروفٍ صدقة، أي: يَحِلُّ فعلُ المعروفِ محلَّ التصدُّقِ بالمال، ويقع التبرُّع بذلك معَه في القُرْبَة». (الميسَّر في شرح المصابيح 2/447).
وقال الوزير ابن هُبيرة: «ومن هذا البابِ تصِلُ الصّدقاتُ إلى من لا يقبل صدقة الأموال، فإنّ الرجل قد يؤثِرُ الرّجل بمجلسِه أو يرفعُه عليه، أو يقدّم سؤالَه أو حاجتَه قبل حاجتِه، ويكون المحْسَنُ إليه في ذلك غنيًّا لا يقبل صدقات الأموال، فهذا الفقه في الاحتساب يجعل الصدقةَ مكتوبة على غنيّ». (الإفصاح (2/238)).
كلمة جامعة
والمعروف كلمة جامعة تجمع بذل الخير والإحسان للناس بالقول أو بالفعل كبُر المعروف أو صغُر، كثُر أو قلَّ، ولا ينبغي لمؤمن أن يترك بذل الخير والإحسان ولو كان قليلاً ؛ فإن عامله سيراه في ميزان حسناته ويُسرّ به يوم الدين: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، وأبواب المعروف كثيرة، فمنها: طِيبُ الْكَلَامِ، وَالتَّوَدُّدُ للمسلمين بِجَمِيلِ الْلفظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعانة المحتاج، وتفريج الكُرب، وإغاثة الملهوف، ونُصرة المظلوم، والشفاعة الحسنة، وَالْمَعُونَةُ فِي النَّائِبَةِ، والسعي للإصلاح بين المتخاصمين وإنظار المعسر فكل ذلك وغيره من صور بذل المعروف الباعث عَلَيْهِ حُبُّ الْخَيْرِ والصَّلَاحِ لِلنَّاسِ؛ ابتغاءً للثواب من الله -تعالى.
ويتضحُ من هذا العُمُومِ وما فُسِّرَ به من نُصوصٍ وردت في الكشف عن وجوه المعروف، أنَّ الأعمالَ الصالحةَ التي تتنزّلُ منزلةَ الصّدقة كثيرةٌ جدًّا، وأنَّ ما نعلَمه من عدلِ الله -تعالى- وفضلِه وكَرَمِه، أنَّ النّاس يتفاوتونَ في الفضل والأجر على قَدْرِ صلاتِهِم بهذه الأعمال، فكلٌّ فيها على قَدْرِ نصيبِهِ منها؛ ذلك لأنّه -سبحانَه- لا يظلمُ مثقالَ ذرّة.
جهود أهل الخير
ومن ذلك كلّه يتضحُ أنَّ أولئك الذي عُمِّرَ ميدانُ العمَل الخيريّ بأعمالهم وجُهُودهم، واقتاتَ على أوقاتهم، ونبَتَ وترعرعَ على ما بذلوا من عافيتهم وتضحياتهم، لهم نصيبٌ في كلّ معروفٍ وخير، وسهمٌ مضروبٌ في كلّ يدٍ امتدّت إلى مكروبٍ ومحتاج، إمّا بالنّقل والإيصال والوساطةِ، أو الدَّلالة والتحريض والحثّ والترغيب، وكلُّ ذلك من المعروفِ، بل من أنفَسِ المعروف.
الإحسان المأمور به
قال السّعدي: «واعلم أنَّ الإحسان المأمور به نوعان: أحدهما: واجبٌ، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق.
والثاني: إحسان مستحبّ، وهو ما زاد على ذلك من بذلِ نفعٍ بدنيّ، أو ماليّ، أو علميّ، أو توجيهٍ لخيرٍ دينيٍّ، أو مصلحةٍ دنيويّة، فكلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أدخلَ السّرور على الخلق صدقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزالَ عنهم ما يكرهون ودفع عنهم ما لا يرتضونَ من قليل أو كثير، فهو صدقةٌ وإحسان». (بهجة قلوب الأبرار (ص142)).
ومن آثار بذل المعروف: نيل رحمة الله وإحسانه وتوفيقه، فهو القائل -جل وعلا-: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ولا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إلا الرُّحَمَاءَ» رواه البخاري
من فوائد الحديث
- بذل المعروف باب من أبواب الخير ونيل الثواب العظيم إذا اشتمل على الإخلاص.
- بذل المعروف ونفع الخلق هدي الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- والصالحين من هذه الأمة.
- كلما كان العبد أكثر بذلاً للمعروف كان أكثر جنياً لثمراته، وتحصيلاً لآثاره التي جمعت خيري الدنيا والآخر.
- بذل المعروف حاز فضيلةَ الصّدقةِ وإن لم تكن شبيههٌ بالصّدقةِ.
- من فُتِح له باب من المعروف فليلزمه، وليشكر الله -تعالى- عليه ويسأله الثبات على هذا الخير والمزيد من فضله.
- فعل المعروف عمومًا بمنزلةِ الصّدقة، فيَحِلُّ فعلُ المعروفِ محلَّ التصدُّقِ بالمال، ويقع التبرُّع بذلك معَه في القُرْبَة.
- المعروفُ المتّصل بحياطةِ الصّدقةِ وتنميتها وإيصالها إلى مستحقّها هو أولى أنواع المعروف بأنْ ينزّل منزلةَ الصّدقة نفسها؛ لأنّها لا تتمّ إلا به.
لاتوجد تعليقات