السلفية بين الإقصاء والادعاء (6) السلفية وتأويل النص
ذكرنا في المقال السابق أن لأهل السنة أصول في فهم النصوص وهي كثيرة ومنها تمسكت السلفية بفهمهم لذلك، واليوم نتحدث عن وقوف السلفية في وجه تأويل النصوص، ودوافع اتهام السلفية بهذه الفرية.
لماذا يركزون على هذه الشبهة؟
- أولاً: الذي طرح هذه الفكرة لا يعنيه ماذا قالت السلفية وكيف فسرت النصوص، وإنما يريدون إيصال رسالة لوجوب إعادة قراءة النصوص وكأنهم يقولون: إن التفسير للنصوص من قبل الدعوة السلفية خطأ، فدعونا نؤصل لقراءة جديدة لذلك، وهذا ما يسمونه بالمنهج الحداثي، وللأسف من يحمل هذا الفكر يسمون أنفسهم بالمفكرين ويدعون وجوب قراءة النصوص بصورة جديدة تتواكب مع العصر، وهذا هو بيت القصيد والهدف الأصيل، فلازم إعادة قراءة النصوص بطريقتهم يلزمه القضاء على الطريقة السلفية في قراءة النصوص ووضعها في موضع الاتهام، هذا هو الهدف الأصيل حتى يتبين للقارئ والمتابع الأهداف المرجوة من تلك الحملات، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم - من ذلك وفي الحديث عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : نعم؛ قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن قلت: وما دخنه؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله: صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك. قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (البخارى 7084).
ولذلك حينما سئل محمد أركون عن كيفية التعامل مع النصوص الواضحة غير المحتملة كقوله -تعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء 11)، قال: في مثل هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني لا يمكننا أن نستمر في قبول ألا يكون للمرأة قسمة عادلة فعندما يستحيل تكيف النص مع العالم الحالى ينبغي العمل على تغييره (حوار مع مجلة لونوفيل أبسرفاتور فبراير 1986)، وأظن أن الأمر واضح والأدلة على ذلك لا تحصي ولا تُعد.
موقف الدعوة السلفية
- ثانياً: الدعوة السلفية تقف في وجه تأويل النصوص: وبداية لابد أن نذكر لطيفة جميلة هو أن جميع الدعوات سواء كانت من الفرق الإسلامية أم من غيرهم كانت تُنسب لأصحابها ومؤسسيها فتجد الأشعرية تنُسب لأبي الحسن الأشعري، والمعتزلة تُنسب للمعتزلي واصل بن عطاء، والجهمية تُنسب إلى الجهم بن صفوان، والسبئية تُنسب لعبدلله بن سبأ، والليبرالية تنتسب لمعنى الحرية المطلقة، والعلمانية تنتسب لدعاة فصل الدين عن الدولة، والحداثة تنتسب لما يسمون أنفسهم بالحداثيون...، وهكذا.
وفي المقابل تجد الدعوة السلفية تُنسب إلى المنهج الأول الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وكل عالم يأتي يلتزم بالدعوة لمنهج السلف والذي وقف في الإساس لإبطال البدع التي ظهرت في الدين، وإحياء طريقة السلف كاملة في العمل بنصوص الشرع في توحيد العبادة والربوبية وفي أسماء الله -تعالى- وصفاته، وفي العبادات والمعاملات وسائر أبواب الفقه. والمثال على ذلك ابن تيمية -رحمه الله- والشيخ محمد بن عبد الوهاب جددا من الإسلام ما اندثر في عهديهما من العقيدة والقول والعمل؛ ولذلك هم دائماً يحاولون إلصاق معنى السلفية بالوهابية نسبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب وللعجب أنهم لم يذكروا النصوص التي تم تأويلها من وجهة نظرهم وهذا مقصود.
قال ابن تيمية رحمه الله: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله.
مثال عملي
- ثالثاً: مثال على وقوف السلفية في وجه تأويل النصوص: في الحديث القدسي يقول الله -عزَّ وجلَّ- «يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟.. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ:أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟.. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» (رواه مسلم)
قال الأشقر: إن هذا الذي زعمتموه ظاهر النص ليس بظاهره ومن الحديث ما يدل على هذا ويفسر مراد الله منه معنى الحديث يقول الله -تعالى-: «عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول يارب: كيف أطعمك، فيقول: أما علمت أن عبدي فلان...» (التأويل ص43).
قال ابن تيميه -رحمه الله تعالى-: هذا صريح في أن الله -سبحانه- لم يمرض ولم يجع ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه جوعه ومرضه مرضه؛ مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ولو عدته لوجدتني عنده فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل (الفتاوى).
ولما سأل رجل الشافعي -رحمه الله- عن مسألة قال: قضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا وكذا.
فقال له الرجل: ما تقول أنت؟
فغضب الإمام الشافعي وقال له: تراني في بيعَة، تراني في كَنِيسَة، ترى عَلَيَّ زِي الْكفَّار، هُوَ ذَا تَراني في مَسْجِد الْمُسلمين عَلَىَّ زِي الْمُسلمين مُسْتَقْبل قبلتهم، أروي حَدِيثا عَن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ لَا أَقُول بِهِ.
ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: «وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ اعْتِصَامُهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ، لَا بِرَأْيِهِ، وَلَا ذَوْقِهِ، وَلَا مَعْقُولِهِ، وَلَا قِيَاسِهِ، وَلَا وَجْدِهِ» (مجموع الفتاوى 13/28)، فهذا هو فهم السلف للنصوص وهكذا يتعاملون معها ويقفون في وجه تأويلها موقفاً حازماً والأمثلة لا حصر لها.
لاتوجد تعليقات