استحلال ما حرمه الله …!!
الحلال والاستِحلال، والحرام والتحريم، يتميَّز معناهما بتَأثِير الاعتِقاد؛ ففَرْقٌ بين الذنب يرتَكِبه المسلم، وبين ذات الذنب يستحلُّه المسلِم؛ فبالاستِحلال يَصِير المُستَحِلُّ كافِرًا، بينما فعل الذنب بغير استِحلال يجعل الفاعل عاصِيًا فقط، وليس كافرًا مهما كانتْ عظَمَة هذا الذنب.
يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: «اتَّفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعليُّ بن أبي طالب وغيرهما على أنَّ (شاربي الخمر) إنْ أَقَرُّوا بالتحريم جُلِدوا، وإن أصرُّوا على الاستِحلال قُتِلوا»، يقول الشيخ صالح آل الشيخ: «الاستِحلال: أن يعتَقِد أنَّ هذا العمل منه حلالٌ له، وليس بذنب، وأنَّه ليس بمحرَّم»، قال -تعالى-: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}(النحل: 116). وقد جعل الإسلام المُستَحِلَّ كافِرًا زائِدًا في الكفر، وكذلك متى قال لغيره: إنَّ الحرام حلالٌ فافعله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(التوبة: 37).
فالحلال ما أحلَّه الله -جل جلاله- في كتابه، أو جاء حِلُّه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أُوتِي الكتابَ ومثلَه معه، ومثله يُقال: إنَّ الحرام ما حرَّمَه الله في كتابه، أو على لسان نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، ومُؤدَّى ذلك أنَّه لا مجالَ للعقل فيه؛ فلا يُقاس على الحلال أو الحرام، يقول الشعبي: «إذا أخذتُم بالقياس أحللتُم الحرام، وحرَّمتم الحلال».
فالسُّلطان في التحليل والتحريم للوحي وحدَه ليس لغيره، ومَن يحلِّل أو يحرِّم من غير دليلٍ مِن كتاب أو سنَّة؛ فقد جعل نفسَه لله -تعالى- نِدًّا؛ وكذلك مَن أطاعَه فيهنَّ؛ فمَن أطاع مخلوقًا في التحليل والتحريم فقد اتَّخَذَه إلهًا، يقول الله -جل جلاله-: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(الأنعام: 121).
قوله -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(المائدة: 50).
يقول القرطبي: «وما لم يحرِّمه الله فليس لأحدٍ أن يحرِّمه، ولا أن يَصِير بتحريمه حرامًا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لِمَا أحلَّه الله: هو عليَّ حرام، وإنما امتَنَع مِن ماريَّة ليمين».
وليس لأحدٍ أن يقول في شيء: حلال وحرام، إلا مِن جِهَةِ العلم، وجِهَةُ العلم في تحديد ذلك نصُّ الكتاب والسنَّة، أو الإجماع، أو القياس على هذه الأصول.
وحُكم معرِفَة الحلال والحرام فرضٌ على الكفاية يلزم علماء الأُمَّة، ولا يلزَم العامَّة فيها. وتقتَضِي معرفة الحلال والحرام معرفةَ اختِلاف ذلك بين الشرائع، فلا مانع شرعًا أو عقلاً أن تختَلِفَ شرائع الأنبياء فيه، وقد جاء بذلك القرآنُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(المائدة: 48).
يقول ابن حزم: «فمَن أحلَّ ما حرَّم الله تعالى وهو عالِمٌ بأنه -تعالى- حرَّمَه، فهو كافِرٌ بذلك الفعْل نفسه، وكلُّ مَن حرَّم ما أحَلَّ الله -تعالى-؛ فقد أحَلَّ ما حرَّمه - جلَّ جلالُه -؛ لأنَّه -تعالى- حرَّم على الناس أن يُحَرِّموا ما أحلَّ».
يقول شيخ الإسلام: «ومَن خالَف ما ثبَت بالكتاب والسنَّة؛ فإنَّه يكون إمَّا كافرًا، وإمَّا فاسِقًا وإمَّا عاصيًا، إلا أن يكون مؤمنًا مجتهدًا مخطِئًا؛ فيُثاب على اجتهاده، ويُغفَر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغْه العلم الذي تقوم عليه به الحُجَّة.
قوله جل جلاله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}(الأعراف: 157)، يقول ابن قيِّم الجوزيَّة: «فهذا صَرِيحٌ في أنَّ الحلال كان طيبًا قبل حِلِّه، وأنَّ الحرام كان خبيثًا قبْلَ تحريمه، ولم يُستَفد طِيبُ هذا وخُبثُ هذا من نفْس الحل والتحريم».
يقول الشافعي: «وليس يَحِلُّ بالحاجة محرَّم إلا في الضرورات مِن خوف تلَف النفس؛ فأمَّا غير ذلك فلا يَحِلُّ لحاجةٍ فيه؛ فالحاجة فيه وغير الحاجة سواء...».
وقد جاء في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور: 63)؛ فليس يصحُّ من مُسلِمٍ أن يُقدِم على فِعْل أو عمل ما نُهِي عنه.
لاتوجد تعليقات