تأملات قرآنية في مفهوم السكن القلبي – 10 مقاصد شرعية في العلاقة بين الزوجين
قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }، المتأمل في هذه الآية المباركة يجد مقاصد شرعية عظيمة من أهمها:
الزوجة من جنس الزوج
ذكر الله -تعالى- العلاقة الزوجية في سياق الامتنان على الناس؛ فهي آية باهرة تستحق التفكر والتأمل، فيها أسرار عظيمة ومقاصد جليلة يقوم عليها صلاح المعاش والحياة؛ لهذا خلق الله الزوجة من جنس الزوج، حتى يحصل الائتلاف وتتحقق المجانسة والمناسبة والملائمة بينهما؛ فالاختلاف في أصل الخلقة يوجب التنافر ويبعث على التقاطع وتعذر التعايش.
خصائص النكاح الشرعي
بيّنت الآية (خصائص النكاح الشرعي) الذي اشتمل على المقاصد والغايات من النكاح، وعلى المنافع والمصالح المتحصلة من العلاقة بين الزوجين، وعلى أسباب حفظ هذه العلاقة على الدوام لا على الانقطاع؛ إذ مقصود الشرع من العلاقة الزوجية الدوام وليس الانقطاع، والتكامل وليس التقاطع، والائتلاف وليس التنافر والاختلاف.
العلة والحكمة الدينية
بينت الآية العلة والحكمة الدينية والقدرية من هذه العلاقة، وهي حصول السكن بين الزوجين؛ إذ الغاية من خلق الزوجة من جنس الزوج واجتماعهما بهذه الرابطة هي حصول السكن والاستقرار وليس القلق والاضطراب؛ فاللام في قوله {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، هي لام التعليل لبيان الغاية والحكمة.
حقيقة السكن
وذكر النص القرآني (حقيقة السكن)؛ فقال: {لتسكنوا إليها }، ولم يقل لتسكنوا عندها، أو لتسكنوا معها؛ لأن معنى لتسكنوا عندها يراد به السكن الجسماني (المادي) فقط،كما يقول أهل اللغة والتفسير، ومعنى لتسكنوا معها: أي مجرد المساكنة والمشاركة في المكان.
أما معنى لتسكنوا إليها ؛ فيحمل معنيين اثنين معاً:
- المعنى الأول: يراد به السكن الجسماني والقلبي معاً، أو السكن المادي والمعنوي، أي: سكن الرجل إلى المرأة بقلبه وبدنه جميعاً، كما يقول شيخ الإسلام وغيره.
- المعنى الثاني: تضمين السكن معنى الميل، أي مع السكن يكون الميل والحب والرغبة؛ ولهذا يكون المعنى شاملا لمعنى الطمأنينة والوقار، والراحة والهدوء والاستقرار النفسي والحسي؛ فهو سكون إلى شيء تميل إليه النفس وتطمئن إليه؛ فتكون حركة كل من الزوجين في معاشهما وسلوكهما متجهة إلى غاية، وهي السكن الحقيقي القلبي الذي يبعث على العمل للأصلح والأنفع لدوام هذه الرابطة؛ فيكون داخل السكن اطمئنان وأُنس ومجانسة ومعاونة؛ فتستقر القلوب في هذا السكن، ويزول عنها الاضطراب والوحشة؛ لهذا من أسباب الاستقرار بين الزوجين شعور الزوجة بالأمان النفسي؛ فتسكن إلى زوجها بطمأنينة وراحة، كذلك بالنسبة للزوج .
الغاية والعلة
وإذا جيء بالسكن في الآية بمعنى الغاية والعلة فهذه الغاية لا تدوم إلا بالوسائل، كذلك كل سكن يحتاج إلى أن يُعمر بالأسباب؛ لهذا جاء ذكر المودة والرحمة لأجل انتظام السكن ودوامه .
حاجة نفسية وجسدية
ولما كان النكاح جالباً للحاجات الضرورية للإنسان؛ فالسكن هو حاجة نفسية وجسدية، والمودة هي حاجة غريزية، والرحمة هي حاجة فطرية شرعية؛ لهذا لا يمكن إشباع هذه الحاجات إلا بالنكاح الشرعي الموصوف بالخصائص الكاملة والأوصاف الجامعة، ومن هنا يظهر لنا أن ميل كل من الزوجين للآخر لا يكون ضعفاً، ولا نقصاً وإنما قوةً وكمالاً .
أسباب حفظ السكن
ثم ذكرت الآية أسباب حفظ هذا السكن؛ فقال -تعالى-: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}؛ فالمودة في العلاقة والعاطفة، والرحمة في المعاملة، فإذا كان المقصد من النكاح هو التناسل فالعلة (الغاية) من اجتماع الزوجين تتحقق في السكن الحقيقي، أما المودة والرحمة فهما بمثابة السبب والوسيلة، لحصول المقاصد وتحصيل الغاية، فالتناسل: مقصد، والسكن : علة وغاية، والمودة والرحمة من أسباب قيام المقاصد ودوام الغاية.
المصلحة التامة للأسرة
المصلحة التامة للأسرة لا تقوم إلا إذا اقترنت المودة بالرحمة، والمودة التي هي المحبة تفضي إلى الرحمة، فإذا زالت المودة لأي سبب تبقى الرحمة تدير الأسرة، فإذا فقدت الرحمة، احتاج كل من الزوجين إلى تعويض فقدها بالمودة ولو بمشقة؛ حتى تعود الرحمة ويزول الجفاء وترفع القسوة؛ فإن المودة باعثة على الرحمة؛ والرحمة تستجلب المودة؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تزوجوا الولود الودود فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة» رواه النسائي وهو في صحيح الجامع رقم 5251.
الخلل في السكن
أي خلل في السكن في جانبه النفسي المعنوي أو في جانبه الحسي المادي يقع إما لنقص المودة، أو لنقص الرحمة، أو لنقصهما معاً، والرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها، أو لمصلحة أولاده، وغالباً ما يقع الانفصال بين الزوجين مع غياب الثلاثة.
المودة والرحمة
وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن كمال الحب بين الزوجين، وخالص المحبة لا يكونان إلا بالمودة المقترنة بالرحمة، وهذان لا يقعان إلا بجعل الله وتقديره، وهذا هو سر العلاقة الزوجية التي جعلها الله -تعالى- آية من آياته، لهذا كانت مصالح التناسل الضرورية مبنية على السكن المستقر، والمودة الصادقة والرحمة الدائمة، لا على السكن المتنقل، والعاطفة الكاذبة، وقسوة القلب الباطنة .
ولما كانت المودة والرحمة واقعتين بجعل الله وتقديره فإن ما يقع بين الزوجين من البغض والقسوة والجفاء فإنما يقع من قبل النفس الأمارة بالسوء، أو من الشيطان؛ لأن المودة تمنع البغض الشديد، والرحمة تمنع الجفاء والقسوة؛ لهذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسلم. أي : لا يبغض.
وفي حديث آخر عظيم تظهر الموازنة العادلة بين المودة والمحبة وبين الرحمة والشفقة في جانبها النفسي والتربوي؛ فقد قال َرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعْهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ» متفق عليه .
وهذه الإشارة اللطيفة الدالة على الحب الصادق تنتهي بنا إلى إشارة أخرى ، وهي أن حقيقة التفكر الذي دعت إليه الآية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لا تكون إلا من أصحاب الفكر الصحيح الذي نشأ في ظل السكن الهادئ؛ إذ الاستقرار النفسي والروحي من الأسباب المعينة على إصلاح العقل وإعمال الفكر وعلى انتفاع النظر من الآيات الشرعية والكونية والنفسية؛ فالصلة بين السكن القلبي والتفكير الإيجابي كبيرة ومتينة
لاتوجد تعليقات