صفات جيل النصر المنشود (2)
بينت لنا سورة الحشر صفات جيل النصر المنشود، التي هي صفات الصحابة -رضوان الله عليهم- من المهاجرين والأنصار، السابقين إلى الله ورسوله، الذين قام الإسلام على أكتافهم، ونقلوا إلينا القرآن والسنة غضين طريين كما أنزلا، وأتوا بالإسلام إلينا على طبق من ذهب؛ فهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى، ونتناول في هذه السلسلة صفات هذا الجيل وواجبنا نحوهم، لعلنا نقتدي بهم وبآثارهم، وتكلمنا في العدد الماضي عن فضلهم وفضل حبهم واليوم نكمل ما بدأناه.
استحقاق المهاجرين للفيء
قال -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }(الحشر:8-10).
أول وصف وصف الله -عز وجل- من يستحقون الفيء: أن يكونوا من الفقراء المهاجرين، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}؛ فالفقراء المهاجرون -رضي الله تعالى عنهم- تحملوا في سبيل الله -سبحانه وتعالى- الفقر؛ فقد كانوا قبل ذلك فيهم من له المال والعشيرة والوجاهة والوطن والدار والتجارة الرابحة، ثم تركوا ذلك لله -سبحانه وتعالى- وتحملوا أن ينتقلوا إلى دار غريبة عليهم، صارت بعد ذلك أحب إليهم؛ لأنهم تركوا من أجلها وطنهم وأرضهم وديارهم وأهليهم.
فالله -سبحانه وتعالى- ذكر تضحيتهم في سبيله -عزوجل- وتحملهم مشاق قلة المال، والبعد عن الوطن، والأهل والعشيرة، ولاشك أن الإنسان يكون مستريحاً أكثر في المسكن الذي يرتضيه، الذي نشأ فيه، وفي البلد الذي يحب أن يعيش فيه، ولاسيماً إذا كان أحب بلاد الله إلى الله، وجعله الله -عز وجل- محبوباً إلى قلوب عباده المؤمنين، وهي: مكة المكرمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : «والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
فلينظر كل منا إلى هذا الأمر، واستعداده للتضحية من أجله؛ فهؤلاء تحملوا الفقر في سبيل الله -عز وجل- والغربة عن المساكن التي تركوها لله -عز وجل- وجهاداً في سبيله، كما قال -سبحانه وتعالى- في وجوب تقديم حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).
سبب تحمل الجوع والفقر
كان المهاجرون -رضي الله عنهم-؛ ممن قدَّم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الثمانية: الآباء والأبناء، والعشيرة والأهل والأزواج، والأموال المكتسبة، والتجارة التي يخشى كسادها، والمساكن المرضية، كل هذا ضحوا به في سبيل الله -عز وجل- وكان فقرهم الذي حصل لهم إنما كان بعدما كانوا فيه من سعة من المال والرزق، وما كانوا فيه من المنزلة؛ فإن قريشاً كانت لها المنزلة الرفيعة عند العرب جميعاً، وكانوا -رضوان الله عليهم- بما صنعوا يمثلون قدوة في التحمل والصبر والثبات على الدين رغم المشاق، وكان من شأنهم ما ذكره أهل السير والحديث، من جوعهم؟ وزهدهم في الدنيا؟ وصلابة تحملهم للمشاق في سبيل الله؟
يحكي ابن عمر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بجماعة من أصحابه يعودون سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وليس عليهم نعال ولا خفاف ولا عمائم ولا قلانس إلا الأزر -رضي الله تعالى عنهم- خرجوا حفاة ليس معهم نعل ولا خف، ولا قلنسوة ولا عمامة، -رضي الله تعالى عنهم- ليس معهم إلا الأزر.
وكذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أميراً على سرية فيها ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وماذا كان زادهم الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ زودهم بجراب من تمر، نصيب كل واحد منهم في اليوم تمرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه حجرين من الجوع، وكان الصحابة يعصبون على بطونهم حجراً حجراً -رضي الله تعالى عنهم.
إنفاق الأموال في سبيل الله
وقد أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فمنهم من أنفق ماله كله كـأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : تركت لهم الله ورسوله؛ لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أمنَّ الناس علي في نفسه وماله أبو بكر» رضي الله عنه »، ويقول: «وكل أحد كافأناه بها إلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يجزيه الله بها يوم القيامة» -رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر أصحابه بأنه لا يخشى عليهم الفقر، مع أنهم كانوا في شدة الحاجة فيصبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم» .
خطب عتبة بن غزوان رضي الله عنه ؛ فقال: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر؛ فالتقطت بردة فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، قال: ما أصبح كل واحد منا إلا أميراً على مصر من هذه الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيرا. -رضي الله تعالى عنهم.
انظر كيف كان حالهم؟ ليس لهم طعام إلا ورق الشجر، وتحملوا هذا فعلاً في سبيل الله، وصبروا على الفقر؛ ولذا يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، -رضي الله تعالى عنهم- وفي الحديث: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره».
تحمل الصحابة للجوع والخوف
قال -عز وجل-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)، إن ذكر الخوف ينبئنا بما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من شعور ضروري يلازمهم باستمرار الحياة المعتادة، وتحملهم لهذا الشعور في سبيل الله من أعظم ما يثيب الله -سبحانه وتعالى عليه.
أكثر الناس من أجل الشعور بالأمان مستعد؛ لأن يضحي بالتزامه وبطاعته لله، وبعمله من أجل الإسلام، بل ربما يضحي بعمله بالإسلام لكي يكون آمناً مطمئناً مع أن هناك خوفاً أشد، فالمؤمن إنما يسعى للأمان الحقيقي يوم الفزع الأكبر، والله -عز وجل- ذكر وقوف المؤمنين المطمئن فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر:27-28)، وقال -عز وجل-: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}(النمل:89)، وهذه كلها مشاق، تحملها المهاجرون -رضي الله عنهم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد»، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من بيوتهم من الجوع؛ فيجدهم أبا الهيثم بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه ، لكي يأكلوا عنده وليس عندهم شيء.
النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل فيقول: إني مجهود، أي: أصابني الجهد من شدة الفقر والحاجة؛ فيرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيوت نسائه واحدة واحدة، وتسع نسوة للنبي صلى الله عليه وسلم كل واحدة منهن تقول: والله ما عندي إلا ماء -ليس في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ماء- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من يضيف هذه الليلة يرحمه الله، فيقول رجل من الأنصار: أنا رضي الله عنه ، ويذكر أن هذا هو سبب نزول قوله -سبحانه-: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}؛ فانطلق هذا الرجل بهذا الضيف لامرأته وقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، -رضي الله تعالى عنهما- وعن أولادهما، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، ثم قومي فأطفئي السراج، وأشعريه أنا نأكل، ونبيت ليلتنا طاويين، ففعلت -رضي الله تعالى عنها- وهذا والله من الأمر العجيب، أنها تقدم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فقط على نفسها بل حتى على أولادها، والأب والأم يمكنهم أن يقدموا الضيف على أنفسهم، لكن أن يقدم على قوت الصبية من أجل أن يطعم المسكين الفقير المجهود الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا هو العجب، وانظر إلى ما كان عليه الحال عندهم من الشدة.
وأبو هريرة رضي الله عنه يقسم أنه يسأل عمر رضي الله عنه عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويسأل أبا بكر عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يلحق به، ويجد إناء من لبن أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «ادع لي أهل الصفة»؛ فيقول: كنت أنا أولى بهذه الشربة لكي أتقوى بها، والآن إذا دعوت أهل الصفة أمرني أن أسقيهم فكنت آخرهم شرباً فما عساني أن يدركني شيء من هذا اللبن.
لكن يبارك الله -عز وجل- في هذا اللبن، حتى يشرب منه سبعون من أهل الصفة، وأبو هريرة رضي الله عنه آخرهم كما توقع، لكنه شرب حتى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً -رضي الله تعالى عنه- وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعند أن شرب الفضلة، ظل يقول له النبي صلى الله عليه وسلم : «اشرب اشرب اشرب»، حتى قال: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً.
انظر كيف كانت حياتهم -رضي الله تعالى عنهم- وكيف كان تحملهم للفقر في سبيل الله -عز وجل-؛ فهذا الأمر، وهو تحمل المشاق والمصاعب، لابد أن نسأل أنفسنا ونزنها فيما يتعلق بهذه الصفة: هل عندنا استعداد لأن نتحمل من المصاعب مثلهم؟!.
لاتوجد تعليقات