رحمة أهل السنةبالمخالفين- ابن تيمية نموذجا(2)
بينا في المقال السابق الموقف من الخلاف وأنواعه؛ وفي هذه الحلقة نتناول الموقف من المخالف وهو الذي وقع منه الخلاف، ولتقريب المسألة وجمع شتاتها فإننا سوف نكتفي بنموذج سُنِّي يعد تحقيقًا عمليا للموقف السُنِّي من المخالف، واختياره ليس لأنه اختص بهذه الخصلة من بين سائر العلماء السُنِّيِّين، ولكن لكونه ظُلم مرتين: ظَلَمَه أتباعه الذين لم يعقلوا مراده ولم يفهموا منهجه، كما تعمّد كثير من خصومه قراءة فكره قراءة انتقائية يغلب عليها استحضار الخصومة الثقافية، ويغيب عنها الميزان العلمي القائم على العدل. وسوف نتناول موقف ابن تيمية من المخالف في ثلاثة عناوين:
أولا: رحمة ابن تيمية بالمخالف ودعوته لجمع الكلمة
الحياة العملية للشيخ أكبر شاهد على هذا المبدأ، فقد كان رجل إطفاء بين الأشاعرة والحنابلة رغم خلافه مع الأشاعرة، ودعا للتآلف بينهم ونبذ الخلاف، وقد حكى ذلك الواقع فقال: «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين، وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أَجَلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله».
وحين وقعت بينه وبين ابن مخلوف عداوة وخلاف، وصف نيته فيه وحرصه على الخير له، فكان يقول في حقه: «وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط. ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور؛ فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين». وقد أقر القاضي المالكي ابن مخلوف نفسه بفضله ورحمته به، فقال متحدثًا عنه: «ما رأينا مثل ابن تيمية! حرّضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجج عنا».
شعار ابن تيمية مع المخالف
وكان شعاره مع المخالف عمومًا ما قال هو عن نفسه: «فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه على أو ظلمه، وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم، فلو كان الرجل مشكورًا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببًا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة».
فهذه الكلمات من الإمام تبين بجلاء للقارئ المنصف كيف كان حاله مع من يختلف معهم، وكيف دعا إلى الألفة والتسامح والعفو بين المختلفين.
وحتى لا تبقى القضية محل استشكال من القارئ فإننا نخصص الموضوع أكثر وأكثر، ونقرب العدسة لنتكلم عن عين الخلاف وحقيقته وكيف تعامل معه، وذلك ما سوف نتناوله في الموضوع الموالي.
ثانيا: موقف ابن تيمية من المخالف في أصول الدين
لقد كان موقفه من المخالف في أصول الدين علامة مميزة له ومحددة تكشف بعده عن اتباع الهوى، وتمكنه من المنهج الذي يدعو إليه، وكيف استطاع أن يتمثله حتى وهو في معمعة الخلاف، ومعارك الكلام ومتشابهات الألفاظ، فقد كان في تقريره للقضايا يدرك بحاسة العالم المحقق الفروق بين المختلفين، كما يدرك بفرقان المؤمن الخائف من ربه ضرورة العدل في حق من يتكلم عنهم، ويتعرض لمذاهبهم دراسة وتحقيقًا، ونقدًا وتدقيقًا.
ويظهر موقف ابن تيمة المنسجم من المخالف في قضيتين أساسيتين:
القضية الأولى: الموقف من التكفير:
فقد بين بوضوح موقفه ممن خالفه وتعدى حدود الله فيه بالتكفير، فقال: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفير، أو تفسيق، أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًّا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس حاكمًا فيما اختلفوا فيه».
ومع تأكيده على العدل في الحكم على المخالف ورده إلى ميزان الشرع، فإنه بين أن هذا الموقف ليس موقف تورع فقط، بل هو منهج متبع عند أئمة السلف من أهل السنة والجماعة فيقول: «فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون مَن خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفِّرهم؛ لأنَّ الكفرَ حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله».
فلم يجعل مجرد المخالفة أو الوقوع في الخطأ سببًا في إجراء حكم التكفير على المخالف بل قيَّد ذلك بقيام الحجة، ويضرب مثالًا حيًّا للتثبت في الحكم على المخالف والعدل في حقه ولو كان مخالفًا في أصول الدين فيقول: «ولهذا كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله -تعالى- فوق العرش- لما وقعت محنتهم-: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهّال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وفضلائهم، وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم من قصور في معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا». فهذا حاله مع كبراء القوم وعلمائهم ممن تصدوا له، وكانت بينه وبينهم احتكاكات فكرية قوية لا ينضبط فيها بالشرع إلا من وفقه الله، فمعلومة هي مخاطر مضايق الجدال ومحارات العقول.
وبالرغم من تعقيد المهمة التي كان يمارسها ابن تيمية وهي عرض الأفكار وتحليلها ونقدها؛ إلا أن كل ذلك لم يوجب له عجلة في الحكم، ولا ظلمًا للمخالف مهما كان، ومن الغريب أن يتحدث ابن تيمية عن المعتزلة وهم أشد الفرق الإسلامية مخالفة له، ومع ذلك لا يبخسهم حقهم؛ فيصفهم بقوله أنهم مع مخالفتهم: «نصروا الإسلام في مواطن كثيرة، وردوا على الكفار بحجج عقلية، لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول، ورد أخباره ونصوصه».
بل ذهب إلى أبعد من ذلك فعاب على ابن فورك الأشعري تكفيره للمعتزلة وتأليب السلطان عليهم، كما أكد في معرض رده على ابن فورك على الرحمة بالمخالف فيقول: «كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كفرهم عند السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد بل ابتدع بدعة، وعادى من خالفه فيها أو كفره فإنه ظلم نفسه، وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق، يتبعون الرسول فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه».
وهذا الموقف لم يخص به المعتزلة بوصفهم خصوما تقليديين بل عممه مع خصومه جميعهم حتى من الأشاعرة والماتريدية، فبعد أن ذكر أقوالًا لأهل العلم في التحذير منهم عقب عليها بقوله: «إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف».
لاتوجد تعليقات