رحمة أهل السنة بالمخالفين- ابن تيمية نموذجا
الاختلاف أحد المظاهر الجمالية في هذا الكون الدالة على قدرة الله عز وجل، وهو في البشر طبعي؛ نظرا لطبيعة اللغة وطبيعة البشر، والحياة التي يعيشون؛ فالبشر فيهم الذكر والأنثى، وفيهم من يميل إلى التيسير، وفيهم من يميل إلى التعسير، وفيهم الذكي والغبي، والبليد، وكلٌ مبتلى فيما آتاه الله من القدرات، وقد اقتضت قسمة الله للأخلاق والأرزاق بين الناس أن يتفاوت الناس في طريقة استيعابهم لطبيعة الخلاف الواقع بينهم؛ وذلك لما يسود العلاقة بين الناس من الدقة وصعوبة تصورها، فحقوق الناس مبنية على المشاحة كما قال الله: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَ} (النساء: 128).
قال ابن عطية: «والشُّحَّ: الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم، والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منها ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال -تعالى- فيه: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} (الحشر: 9). وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية، أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل، وهي رذيلة لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث «قيل: يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: نعم». وأما الشُّحَّ ففي كل أحد، وينبغي أن يكون، لكن لا يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله -تعالى-: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} (النساء: 128). وقوله: {شُحَّ نَفْسِهِ} فقد أثبت أن لكل نفس شحًّا».
فالشح جار في حياة الناس وفي علاقاتهم سواء كانت اجتماعية، أم عقدية، أم سياسية أم مالية، وقد جاء الأنبياء لضبط هذا الاختلاف بالشرائع، ومعالجة الآثار السلبية المترتبة عليه، فهدى الله بهم الناس لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وجعل هذه الهداية مقصدًا من مقاصد النبوة: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِين} (النحل: 39). فهدى الله بهذا البيان خلقًا كثيرًا إلى العدل، واستقامت حياة الناس بالتمسك بالشرائع، ولم يكن من سبيل إلى جمع الناس على الحق غير شرائع الأنبياء؛ لأن أهواء الناس لا تنضبط، وطباؤعهم تختلف بعدد أنفاسهم، ثم إن الناس لا يحسن حالهم إلا باتباع منهج الأنبياء، وملخصه في هذا الباب: اتباع الحق والرحمة بالخلق، وهو التحقق العملي لقول الله -تعالى-: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة} (البلد: 17). وهو منهج الذين آمنوا كما في الآية.
واقع الأمة
ونظرًا لما تشهده الأمة الإسلامية عمومًا، والصف السُنِّي خصوصًا من الظلم والبغي في الجانب العلمي فإننا سوف نحاول تركيز العدسة البحثية من أجل إبراز هذه السمة السنية، وهي الرحمة بالمخالف، ونزاهة الآليات في التعامل معه، ونبين المستند الشرعي في ذلك، ثم نأخذ نموذجًا لعالم سُنيّ مؤثر في المشهد العلمي في جميع جوانبه في الأصول والفروع والمعتقد والسياسة؛ ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وسوف نتناول الموضوع في عناوين مختصرة أولها:
الموقف من الخلاف
لا شك أن المسافة بين المختلفين تتحدد بمعرفة طبيعة الخلاف بينهم، ونوعيته؛ فالخلاف ممكن الوقوع في أمور كلية قطعية كأصول الدين، كما أنه ممكن -بل وارد- في الأمور الفرعية الجزئية، وفي كلتا الحالتين هناك أخلاقيات عامة يُتَعَامَلُ بها مع جميع المخالفين، بغَضِّ النظر عن نوع الخلاف معهم.
الخلاف في أصول الدين
وبالنسبة للخلاف في أصول الدين والأحكام القطعية، فإنه ينبغي أن يكون محسومًا لا مجاملة فيه ولا مداهنة، ويجب رده وتبيين مخالفته؛ لكن هذا كله لا يعني التجاوز في حق المخالف بالظلم وعدم الإنصاف؛ فالإنصاف يوجب تفاوت الحكم بين أهل الملة الواحدة، وذلك لاختلاف أحوالهم، ففيهم الجاهل والمقلد والعالم ومتبع الهوى، وباغي الحق الذي لم يُوفَّق في الوصول إليه، وقد بين الإمام ابن القيم طريقة التعامل مع المخالفين على اختلاف أحوالهم فقال: «فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول – كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم- فهؤلاء أقسام:
الجاهل المقلد
- أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق، ولا ترد شهادته، إذا لم يكن قادرًا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوًّا غفورًا.
المتمكن من السؤال
- القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية، ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالًا بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى؛ رُدَّت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى؛ قُبلت شهادته.
ترك الهدى تعصبا
- القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدًا وتعصبًا، أو بغضًا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته: أن يكون فاسقًا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنًا داعية: رُدَّت شهادته وفتاويه وأحكامه، مع القدرة على ذلك، ولم تُقبل له شهادة، ولا فتوى ولا حكم، إلا عند الضرورة، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم، وكون القضاة والمفتين والشهود منهم؛ ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير، ولا يمكن ذلك، فتقبل للضرورة».
التفريق بين الضرورة وغيرها
محل الشاهد التفريق بين الضرورة وغيرها، والتفريق بين أصناف الفرقة الواحدة؛ فالخلاف في أصول الدين والأمور القطعية، وإن كان غير سائغ، ويجب رده؛ لكن لا يعني التخلي عن أخلاق الخلاف من العدل والرحمة والحرص عل اتباع الحق، وعدم رد قول القائل لمجرد مخالفته، دون النظر إلى دليله.
وللحديث بقية -إن شاء الله.
لاتوجد تعليقات