حتمية البعث وجهالة الإلحاد
تقوم عقيدة الإلحاد على أساس أنه لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار؛ لأنه لا إله، -تعالى الله-، ومن ثم فإن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- عند الملحدين في أحسن الأحوال مجرد مصلحين أو زعماء إصلاح، وليس هناك وحي ولا غيره، والملحدون يلتقون في إنكارهم للبعث مع كفار العرب عند ظهور الإسلام، وبعض كفار أهل الكتاب كاليهود الصدوقين، والفلاسفة، وبعض الفرق الضالة، وعبدة الأوثان؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: يخبر -تعالى- عن قول الدَّهريَّة من الكفار ومَن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} (الجاثية، آية24)؛ أي: ما ثَمَّ إلا هذه الدار، يموت قومٌ ويعيش آخرون، وما ثَمَّ معادٌ ولا قيامةٌ، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدَّهريَّة الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستةٍ وثلاثين ألف سنةٍ يعود كل شيءٍ إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مراتٍ لا تتناهى، فكابَروا المعقول، وكذبوا المنقول؛ ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية، آية24)، قال الله -تعالى-: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: آية24)؛ أي: يتوهَّمون ويتخيَّلون؛ (تفسير ابن كثير، جـ12، صـ363).
أدلة القرآن الكريم على حتمية البعث:
لقد أقام الله -تعالى- في القرآن الكريم براهين كثيرة على قضية الإيمان باليوم الآخر، وإثبات البعث والحساب والجزاء، منها ما هو ذو طابع، عقلي يخاطب في الإنسان ملكاته المنطقية، مثل قوله -تعالى-: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الإسراء، آية51)، ومنها ما هو ذو طابع نفسي روحاني يخاطب عواطف الخوف والرجاء مثل قوله -تعالى-: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} (يونس، آية46).
وأنكر -سبحانه وتعالى- على الكافرين استبعادهم لذلك اليوم، وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يُقْسِم على أنه حق: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن، آية: 7).
أهم براهين القرآن التي يستدل بها على قضية البعث:
(1): مراحل خلق الإنسان: قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (الحج، آية: 5). فالقادر على الإنشاء قادر على الإعادة.
(2): خلق النبات: قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعة آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} (الحج، آيات: 7:5). فإحياء الأرض الميتة بالمطر وظهور النبات فيها دليل على قدرة الخالق- جل وعلا- على إحياء الموتى وقيام السَّاعة.
(3): عظمة الكون وما فيه من كواكب ومجرات دليل على عظمة المكون وقدرته: قال الله -سبحانه-: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)} (غافر، آية: 57). فالذي خلق هذا الكون المعقد في تكوينه الدقيق في نظامه الشاسع في مساحته، لا يعجزه إعادة جسد قد بلي وتفتت وذهب في التراب، فإن القادر على خلق الأعظم لا يعجزه خلق ما دونه.
(4): حكمة الله وعدالته قاضيتان بحتمية البعث: فالعدالة والحكمة كلتاهما تقتضي ألاَّ يُترك الناس سدى، يعتدي قويهم على ضعيفهم دون رادع، وألاَّ يُترك الذين ينحرفون ويُفسدون دون أن يكون لهم جزاء يوافق عملهم السيء، وهؤلاء الذين لم يدخروا وسعًا في العمل على مرضاة ربهم تأبى الحكمة إلا أن يكون لهم من فضل الله وإنعامه عليهم في اليوم الآخر ما يعملون له في الدنيا، ويضحون من أجله بكثير من المتع، قال -تعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (المؤمنون، آيات: 115: 116).
(5): أثبت القرآن عقيدة البعث بذكر نماذج واقعية ممن ماتوا ثم أحياهم الله بعد موتهم: كقصة الرجل الذي مرّ بقرية خاوية على عروشها، وقد مات عنها أهلها، فقال في نفسه: كيف يحيي الله هذه بعد موتها ؟ فأماته وأمات حماره مائة عام، ثم بعثه، وأراه كيفية بعث حماره، فأنبت العظام أولاً وركّب بعضها فوق بعضٍ، ثم كساها لحماً، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة، آية:259). وقصة أصحاب الكهف، قال -تعالى-:{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} (الكهف، آية:21). وقصة إبراهيم - عليه السلام – عندما طلب أن يريه الله كيف يحيي الموتى، قال -تعالى-: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} (البقرة، آية:260).
(6): إعادة الخلق أهون من ابتدائه: قال الله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} (الروم، آية: 27).
صدق الله -تعالى- وكذب الملحدون:
حين يخبرنا الله -تعالى- بحتمية البعث على ذلك النحو في القرآن الكريم، مبيناً لنا أن هذا هو مقتضى العدل والحكمة والقدرة فإنه لا يخبرنا بمستحيل، لا يمكن تصديق وقوعه، بل هو ممكن عقلاً؛ لأن المستحيل هو ما لا يقبل الثبوت دائماً، كاجتماع النقيضين، وأما إعادة الموتى إلى الحياة لحسابهم ومجازاتهم على أعمالهم فإنه من الممكنات العقلية، التي لا تحمل شبهة الاستحالة، بل قد بين الله -تعالى- في القرآن حتمية ذلك ووجوبه، وجعل من شواهد القدرة على ذلك ما يؤيده، في عديد من مناحي الكون.
دورة حياة دودة القز دليل من أدلة البعث:
دودة القز هي الدودة التي تنتج الحرير، ودورة حياتها آية من آيات الله، فهي تنتمي إلى فصيلة الفراشات، وتبدأ حياتها من حيث تقوم الفراشة بوضع البيض، الذي يتراوح عدده ما بين 300 إلى 400 بيضة تقوم بوضعه دفعة واحدة، ثم تقوم بفقسه خلال أسابيع، ثم تبقى في ثبات تام إلى أن يأتي فصل الربيع وهو الفصل الذي تنمو فيه أوراق الشجر ولاسيما أوراق التوت، فتخرج اليرقات (الدود) من البيض، فينمو خلال ستة أسابيع؛ ليصل طول الدودة الواحدة سبعة سنتيمترات ونصف، وحينها تقوم بنسج خيوط الحرير حولها لتعيش بداخل شرنقتها تلك أسبوعين في حالة ثبات تام، لا حراك فيها، وليس لها أي دفاعات، إنها حالة شديدة الشبه بالموت!، غير أنها تتحول خلالها من دودة إلى فراشة، مع نهاية الأسبوعين. فسبحان الله كيف تحولت هذه الدودة أثناء ذلك الموت من حشرة فقارية زاحفة إلى فراشة طائرة ذات أجنحة متعددة الألوان! أليس من فعل ذلك بقادر على أن يبعثنا بعد الموت للحساب؟ قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف، آية185).
لاتوجد تعليقات