بحوث علمية- مفهوم التأويل الشرعي وضوابطه
التأويل أحد أهم القضايا المعيارية التي أخذت حيزًا كبيرًا من البحث العلمي، في الفكر الإسلامي، على جميع المستويات، وخفض الناس فيها ورفعوا، حتى صار التأويل أصلًا عند المتكلمين، يحاكمون إليه النصوص الشرعية جميعها، ويردونها انطلاقًا منه، وفي مقابل هؤلاء ظهرت طائفة أخرى جعلت التأويل عدوا لها، ولم تر له مثالًا صحيحًا؛ فرفضت التأويل جملة وتفصيلًا، حتى في مظانه وموارده، وسوف نحاول في هذا المقال تجليَة مفهوم التأويل بمعناه الشرعي، والتعرّض لضوابطه التي تجعله مقبولًا، وتعصم مُستخدمه من الزلل.
تعريف التأويل لغةً واصطلاحًا
التأويل في اللغة: تفعيل من آل يؤول إلى كذا إذا صار إليه؛ فالتأويل التصيير قال الشاعر:
على أنها كانت تؤول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال أبو عبيدة: «يعنى تفسير حبها ومرجعه أنه كان صغيرا في قلبه, فلم يزل ينبت حتى صار قديما مثل هذا السقب الصغير, الذي لم يزل يشب حتى صار كبيرا مثل أمه».
والتأويل في الاصطلاح له ثلاثة إطلاقات:
الإطلاق الأول: يراد به حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (الأعراف:53). أي حقيقة ما أخبروا به من المعاد، وهذا الإطلاق لا يختلف كثيرًا عن المعنى اللغوي للتأويل؛ بل هو مستمد منه.
الإطلاق الثاني: التأويل بمعنى التفسير، والبيان والتعبير عن الشيء كقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {يوسف:36}. أي بتفسيره.
وهذان المعنيان هما الغالبان في القرآن وفي اصطلاح السلف والمفسرين.
الإطلاق الثالث: «هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل».
وهذا هو التأويل في اصطلاح المتكلمين، وجمهور الأصوليين، وعليه يدور الخلاف في مورده ومجاله، فمنهم من توسع فيه، حتى جعل مجرد الاحتمال سببا للتأويل، دون مراعاة للضوابط الشرعية في هذا الباب، والحقيقة أن التأويل بهذا المعنى الاصطلاحي ليس مرفوضا بإطلاق ولا مقبولا بإطلاق، بل لابد له من ضوابط، وهذه الضوابط لا يقبل التأويل من المتأول ما لم يلتزم بها.
ضوابط التأويل
الأصل حمل الكلام على الظاهر، وأما التأويل فهو عارض؛ فلابد للمتأول لكي يُقبل تأويله بهذا المعنى الاصطلاحي الذي مر معنا من أمور منها:
- أولا: أن يبين احتمال الكلام للمعنى الذي يريده لغة، ولابد، لهذا البيان أن يمر بمراحل:
أن يحتمله اللفظ بوضعه
أن يحتمله اللفظ بوضعه، فيكون مستعملا فيه، أما إن فسر اللفظ بمعنى لا تدل عليه لغة العرب فإنه لا يكون تأويلاً مقبولا, وذلك مثل تفسير الاستواء بالإقبال، فإنه لا يعرف في لغة العرب.
أن يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة
أن يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة, من تثنية وجمع؛ فإن المعنى قد يحتمله اللفظ مفردا لكنه لا يحتمله بالتثنية والجمع، كتفسير اليد بالقدرة، فإنها وإن احتملتها مفردة، فإنها لا تحتملها مثناة، كما في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص:75). فإنه لا يمكن أن تكون قدرتي، وكذلك من فسروا العين بالحفظ والرعاية، فإنها، وإن احتملت هذا المعنى مفردة، فإنها لا تحتمله في حالة الجمع.
أن يحتمله السياق والتركيب
أن يحتمله السياق والتركيب؛ إذ قد يكون اللفظ محتملا للمعنى في سياقات أخرى، مثل تأويل النظر بالانتظار، فإنه يرد بهذا المعنى، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (الحديد:13). «والنَّظَرُ الِانْتِظَارُ أَيِ انْتَظِرُونا»، ولكنه لا يحتمله في سياق قوله تعالى: {وُحُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إلى رَبّها ناظِرَةٌ} (القيامة:22-23). فتعدية الفعل بإلى ونسبة النظر للوجوه يدل على أن المعنى هو النظر بالعين لا الانتظار.
ثانيا: أن يبين الوجه الذي لأجله كان هذا المعنى هو المختار عنده.
ثالثا: أن يقيم الدليل والقرينة الصارفة للكلام عن ظاهره، وهذه القرينة لابد أن تكون معلومة عند المخاطب مألوفة لديه، ولا يكفي أن تكون معلومة إجمالًا، وأن تكون لفظية، وإن كانت عقلية؛ فلابد أن تكون ضرورية بدهية لا تخفى على السامع.
ودون الالتزام بهذه الضوابط يكون التأويل لعِبًا وشَغبًا وتحريفًا لكلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم -.
أمثلة للتأويل الصحيح في العقائد والأحكام
مثاله في العقائد: قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (الأعراف:51). فإن النسيان في لغة العرب له معنيان:
المعنى الأول: الغفلة والذهول.
المعنى الثاني: التّرك.
وحمَله السلف على المعنى الثاني، وهو الترك، وذلك لأدلة منها:
كونه أحد معانيه في اللغة, ومنه قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:106). أي نتركها.
أن السياق يدل على هذا المعنى، فقد ذكر في مقام الحساب والعقاب، ويستحيل أن يكون بمعنى الغفلة والذهول؛ ولذلك ورد عن ابن عباس، والسدي، وغيرهما تفسيره بالترك.
والتأويل قليل في العقائد؛ لأنها أخبار ويراد تصديقها وإجراؤها على ظاهرها، وعدم التعرض لها بالتأويل والتحريف والتكذيب.
مثاله في الأحكام: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة:6).
فإن ظاهره أن الأمر بالطهارة لا يكون إلا بعد القيام إلى الصلاة، وتأويلها أن المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فيكون الأمر بالطهارة عند إرادة القيام للصلاة، وهذا تأويل قريب جدًا ووجه قُربه رُجحانه بالنّظير كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل:98)..
ومما يزيد الأمر وضوحًا: ذكر أمثلة للتأويل الفاسد في العقائد والأحكام؛ فإن مثل هذا يجلي حقيقة المنهج القويم في التأويل, ويظهر أنه ليس مردودًا كله, كما أن الباب ليس مفتوحًا على مصراعيه لكل مؤوِّل.
مثاله في العقائد
من أمثلة التأويل الفاسد, ما ذكره ابن القيم عن أهل الكلام, من أنهم يتأولون الأحد «بأنه الذي لا يتميز منه شيء عن شيء البتة، ثم قالوا: لو كان فوق العرش لم يكن أحدًا، فإن هذا تأويل لم تعرفه العرب ولا أهل اللغة، وإنما هو اصطلاح حادث عند الجهمية والفلاسفة، ومن وافقهم»..
وكذلك تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة:4). بمعنى أقبل على خلق العرش، فإن هذا لا يعرف عند العرب في لغتهم، ولا يقال لمن أقبل على شيء، استوى عليه، فلا يقال لمن أقبل على الطعام استوى عليه، وهذا تأويل باطل، وهو كذب بنص كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء». «فكيف يقال إنه أقبل على خلقه، وهو مخلوق قبل هذه المخلوقات؟».
مثاله في الأحكام
من أمثلة التأويل الفاسد في الأحكام: تأويل بعضهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة لما أسلم على عشر نسوة: «أمسك أربعا وفارق سائرهن». فأولوه: «على معنى أن الإمساك ابتداء نكاح أربع منهن، وإنما كان بعيدًا؛ لأنه لم ينقل عنه ولا عن غيره تجديد نكاح مع كثرة إسلام الكفار المتزوجين، وكون الرجل حديث عهد بإسلام لا يعرف هذا المعنى الشرعي، لهذا الكلمة، فلا يمكن مخاطبته به».
وخلاصة الأمر أن القرآن نزل بلسان عربي، وجرى على عادة العرب في الخطاب من اعتمادهم على الاستعارة، والمجاز، والكناية، والأخذ بالمفهوم، وتركه، والنص، والإجمال، ولكن الأصل هو الظاهر، فلا يعدل عنه إلا بدليل، وإلا كان الكلام لغوًا وعُرضة للسفسطة، والتحريف فلزم على كل من ادّعى التأويل في آية أو حديث أن يقيم الدليل على ذلك، وإلا عُدّ متلاعبًا بالوحي سائرًا على منهج أهل الكتاب في تحريف الكلم عن مواضعه.
لاتوجد تعليقات