مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر- الأسباب – الآثار – العلاج (الجزء الأول)
مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر- الأسباب – الآثار – العلاج (الجزء الأول)
للشيخ عبدالرحمن بن معلا اللويحق
هذا الكتاب وصفه د.محمد بن عبدالله عرفة -عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- بأنه: موسوعة علمية متكاملة في قضية الغلو بمثابة (دليل علمي وعملي) لمن يريد أن يتعامل مع مشكلة الغلو الديني بعلم وضمير ورشد وصدع بالحق: نزيه وشجاع.
والكتاب في جزئه الثاني يطرح باستفاضة الأسباب الاجتماعية ثم الأسباب العالمية وراء انتشار ظاهرة الغلو في الدين في العصر الحاضر، وحصر الأسباب الاجتماعية لغياب شرع الله عن الحكم في كثير من بلاد المسلمين، والفساد العقدي، كذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والاتهام والهزء، فضلا عن العنف والتعذيب، والانحلال الأخلاقي، واختلال الأوضاع الاقتصادية، وغياب دور العلماء.
ومن الأسباب التي ذكرها المؤلف لانتشار ظاهرة الغلو في الدين أيضاً: مشكلة غياب هوية الأمة، وانتشار العلمانية في كثير من المجتمعات المسلمة، وفساد كثير من وسائل التوجيه والتأثير وغياب الشورى، كذلك المشكلة الطائفية والهزائم السياسية والعسكرية.
ومما فصل فيه المؤلف المشكلة الطائفية، وما جاء فيها: والمستأمنون هم الذين يقدمون إلى بلاد المسلمين لغرض ثم يجرعون قال ابن القيم -رحمه الله-: «وأما المستأمن فهو الذي يقدم إلى بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون، حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة وغيرها».
والأصل في الأمان القرآن والسنة: فأما في القرآن: فقوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة: 6). وأما في السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم : «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم».
والمستأمنون في الحقوق والواجبات كأهل الذمة غير أنه لا تفرض عليهم الجزية ولا الخراج.
وفي ظل هذه القواعد الضابطة للتعامل مع المعاهدين من الذميين والمستأمنين عاش أولئك المعاهدون في الدولة المسلمة مطمئنين.
يقول القس (برسوم شحاتة) وكيل الطائفة الإنجيلية بمصر: في كل عهد أو حكم إسلامي التزم المسلمون فيه بمباديء الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين – والمسيحيين على وجه الخصوص – بكل أسباب الحرية والأمن والسلام، وكلما قامت الشرائع الدينية في النفوس بصدق بعيدة عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيلين على الدين، كلما سطعت شمس الحريات الدينية، والتقى المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي والوحدة والخلافة». ويقول الأنبا (غريغوريوس) أسقف البحث والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القبطية وممثل الأقباط الأرثوذكس: «ولقد لقيت الأقليات غير المسلمة -والمسيحيون بالذات- في ظل الحكم الإسلامي الذي كانت تتجلى فيه روح الإسلام السمحة كل حرية وسلام وأمن في دينها ومالها وعرضها».
ويقول الكاردينال (اصطفانوس) بطريرك الأقباط الكاثوليك: «إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان، وكل دين يدعو إلى المحبة والإخاء، وأي إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يبغض أحداً، أو يلقى بغضاً من أحد، ولقد وجدت الديانات الأخرى – والمسيحية بالذات – في كل العصور التي كان الحكم الإسلامي فيها قائماً بصورته الصادقة ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر من حيث الأمان والاطمئنان في دينها ومالها وعرضها وحريتها».
ثم انتقل المؤلف إلى بيان الأسباب العالمية وراء انتشار ظاهرة الغلو، وحصرها في شقين، الأول:التآمر على الدين الإسلامي عالمياً، والثاني: سقوط الدولة العثمانية (الخلافة)؛ ومما ذكره المؤلف في هذا الصدد: قد تمالأ أهل الكفر على الإسلام منذ الأيام الأولى لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعاهدوا وتعاقدوا على ذلك، وما وقع في غزوة الأحزاب إلا لون واحد من ألوان ذلك التمالؤ، واستمر الأمر على ذلك فابتلي الإسلام بأعداء كثيرين على مر الزمان، وحاقت به شدائد صعاب من يوم الردة إلى أيام الانقسام والحروب، إلى نكبة هولاكو والمغول، إلى هجمات الصليبيين، إلى مفاسد الباطنية السفاحين والقرامطة الملحدين. عشرات وعشرات من النكبات، ولكنها كلها دون ما يواجهه الإسلام هذه الأيام.
فقد سعى العالم الغربي (اليهود والنصارى والشيوعيون) إلى مناصبة الإسلام وأهله العداء، وكان الدافع الذي يدفعهم لذلك هو البعد الديني، فقد وظفوا كل إمكاناتهم للحيلولة بين الإسلام وبين إيقاظ أمته وعالمه مخافة تأثير هذه اليقظة على النظام الدولي وموازين القوى، والهيمنة الغربية على الشرق الإسلامي.
فليست الوظيفة وظيفة تبشيرية تبتغي هداية المسلمين إلى النصرانية، أو الخوف عليهم من أن يحرموا من النعيم في الآخرة – الذي يتصوره النصارى- وإنما المراد منع رسالة الله -عز وجل- أن تصل للبشر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال:36).
وهم في ذلك العداء متأثرون بخلفيات تاريخية طويلة من الصراعات بدأت منذ ظهور الإسلام، وبلغ أوجها في فترتين من فترات التاريخ هي: فترة الحروب الصليبية: التي أشعلها النصارى للاستيلاء على أرض فلسطين.
وفترة الاستعمار في القرون المتأخرة، ولا يزال الغربي في تقييمه للتعامل مع المسلم متأثراً – وإن كان ذلك بأقدار متفاوتة- بالآثار النفسية لذلك الصراع، مع أن التاريخ يشهد أن الصليبيين واليهود مثلاً لم يلقوا من المسلمين اضطهاداً مثل الذي لقيه المسلمون من الصليبيين واليهود ولا قريباً منه.
إن المؤامرة التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين اليوم لم ير في تاريخ الأديان مثلها؛ لا من حيث تشعبها وتغلغلها في كل الأوساط العالمية؛ ولا من حيث دوامها واستمرارها وتصميمها؛ ولا من حيث كثرة المشتركين فيها ومؤيديها؛ ولا من حيث بعد أهدافها ومراميها؛ ولا من حيث اشتمالها وتعميمها على الإسلام والمسلمين جماعات وأفراداً وشعوباً وأقواماً، وهي تستهدف الإسلام والمسلمين أصلاً وفرعاً، ديناً وكياناً، تراثاً وتاريخاً.. جماعات وأفراداً، عقيدة ومبدأ، وداراً ووطناً، ورزقاً ومتاعاً، ومالاً ونظاماً. وهذه المؤامرة على الإسلام لم تلفت أنظار المتدينين فقط، بل لفتت أنظار الجميع ومن اتجاهات مختلفة.
وختم المؤلف الجزء الثاني من كتابه بمبحث خصصه للآثار الاجتماعية، واختصرها في أربعة مطالب: وقوع التشديد من الله، وتضييع الحقوق، كذلك قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان، والهلاك.
ومما أورده في ذلك أن أهل البدع من الغلاة والخوارج يعكسون الأمر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويبنون على هذا التكفير قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان».
ففي حديث ذي الخويصرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه لما أدبر: «إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان».
فهم يكفرون الناس ابتداء، ثم يبنون على ذلك استحلال الدماء والأموال، فاستحلالهم دماء المسلمين نتيجة لغلوهم وابتداعهم؛ إذ يرون من ليس على طريقتهم خارجاً عن الدين حلال الدم، وهذا هو شأن المبتدعة، قال أبو قلابة -رحمه الله-: «ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف».
وكان أيوب السختياني يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول: «إن الخوارج اختلفوا في الاسم، واجتمعوا على السيف»، لقد أنزلوا الآيات التي أنزلت في الكفار فحملوها على المسلمين، فصارت أحكام الكفار منطبقة على أهل الإسلام. قال عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما- في الخوارج: «إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين». يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الخوارج أيضاً: «هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله».
ومن قصص الخوارج الشهيرة في ذلك قتلهم لعبدالله بن خباب، فقد دخل الخوارج قرية فخرج عبدالله بن خباب ذعراً يجر رداءه فقالوا: لم ترع، قال: والله لقد رعتموني، قال: أنت عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثاً يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه، قال: نعم، سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذلك فكن عبدالله المقتول، قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: ولا تكن عبدالله القاتل، قالوا: أأنت سمعت هذا من أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، قال: فقدموه على ضفة النهر، فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل ما أبذقر (لم يتفرق)، وبقروا أم ولده عما في بطنها».
وفي الغلو المعاصر يتضح أن الاغتيالات والخروج على الأئمة والحكام المسلمين يدخل في استحلال دماء المسلمين، كما يتضح ذلك أيضاً من جعلهم دار الإسلام دار كفر.
لاتوجد تعليقات