رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ أحمد بن عطية الوكيل 20 يناير، 2017 0 تعليق

بَابُ الخُرُوجِ من الفِتْنَة – نَبْذُ الخِلافِ وذَمُّ التَّفَرُّقِ وكَفُّ الشِّقَاقِ

قال اللهِ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (آل عمران: 103)، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10)، وقال تعالى: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (النحل: 92)، قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما - في قولِهِ تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} (الأنفال: 1): هذا تَحْرِيجٌ مِن اللهِ - عزَّ وجلَّ - عَلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّقُوا الله وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِم، وقال السُّدِّيُّ فيه: أي لا تَسْتَبُّوا .

     فهذه رسالةٌ إلى العُلَماء والأساتِذَة والدُّعاةِ والمَشايخ وطُلاب العِلْم ، المُخْتَلِفينَ بعضُهُم مع بَعْض؛ وإلى المُخْتَلِفينَ مِن أتباعِ هؤلاءِ مع أتباعِ أُولَئِكَ، اقْتَبَسْتُهَا بالتَّمَامِ والكَمَالِ مِن كلام شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية، مِن غير تَصَرُّفِ مِنِّي إلا الترقيم لفقراته وقد بلغت عشرين فقرةً، وعلاماته، والتخريج، والعزو، وجعلتُهُ عَقِيب كلامه - رحمه الله -.

     ثم إنِّي رأيتُ مُحَدِّثَ الديار اليمنية أبا عبدالرحمن مُقبل بنَ هادي الوادعي - رحمه الله - قد ذكر كلام ابن تيمية هذا في صدر كتابه (المخرج مِن الفتنة) (نشرة دار الحرمين بالقاهرة 1420 هـ).

     (1) قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية -رحمه الله تعالى- في (مجموع الفتاوى) (ج28/ص13-21): عَلَى الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ»، وَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ»، وفي لفظ آخر: «المؤمنون كرجلٍ واحدٍ إذا اشتكى عينُهُ اشتكى كُلُّهُ، وإذا اشتكى رأسُهُ اشتكى كُلُّهُ»، وَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم : «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ»، وَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم : «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا»، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ.

(2) وَفِي (السُّنَنِ) عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ».

     وفي لفظٍ آخر: «دَبَّ إليكم دَاءُ الأُمَمِ الحَسَدُ والبَغْضَاءُ, والبَغْضَاءُ هِيَ الحَالِقَةُ, لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكَ لَكُم : أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُم».

قال البغويُّ : أراد بفساد ذات البين : العداوة والبغضاء .

(3) وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا، إلَّا رَجُلًا كَانَت بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: انظِرُوا هذينِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».

(4) وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُؤْذِيَهُ بِقَوْلِ وَلَا فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب: 58) .

     وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا تَعَدِّي حَدٍّ وَلَا تَضْيِيعِ حَقٍّ ؛ بَلْ لِأَجْلِ هَوَاهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فِيمَا رَوَى عَنْهُ نَبِيُّه صلى الله عليه وسلم : «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» .

(5) وَإِذَا جَنَى شَخْصٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيْرِ الْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ والأُستَاذِينَ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يَشَاءُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُ وَلَا يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَجْرِ شَخْصٍ فَيَهْجُرَهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ يَقُولَ : أَقْعَدْته، أَوْ أَهْدَرْته، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ القَسَاوِسَةُ وَالرُّهْبَانُ مَعَ النَّصَارَى والأحْبَارُ مَعَ الْيَهُودِ، وَمِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ أَئِمَّةُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ.

     وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ الَّذِي هُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللهَ، فَإِنْ عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم : «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَلَا تُطِيعُوهُ».

(6) فَإِذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ أَوْ الْأُسْتَاذُ قَدْ أَمَرَ بِهَجْرِ شَخْصٍ، أَوْ بِإِهْدَارِهِ وَإِسْقَاطِهِ وَإِبْعَادِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، نُظِرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا عُوقِبَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبَ بِشَيْءِ لِأَجْلِ غَرَضِ الْمُعَلِّمِ أَوْ غَيْرِهِ.

(7) وَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِينَ أَنْ يُحَزِّبُوا النَّاسَ، وَيَفْعَلُوا مَا يُلْقِي بَيْنَهُم الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، بَلْ يَكُونُونَ مِثْلَ الْإِخْوَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: 2).

(8) وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهُمْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَحَدٍ عَهْدًا بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ، وَمُوَالَاةِ مَنْ يُوَالِيهِ، وَمُعَادَاةِ مَنْ يُعَادِيهِ، بَلْ مَنْ فَعَلَ هَذَا كَانَ مَنْ جِنْسِ جانكيزخان وَأَمْثَالِهِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَنْ وَافَقَهُمْ صَدِيقًا مُوَالِيًا ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ عَدُوًّا بَاغِيًا، بَلْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ عَهْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَفْعَلُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُه، وَيُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. 

(9) وَيَرْعَوْا حُقُوقَ الْمُعَلِّمِينَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنْ كَانَ أُسْتَاذُ أَحَدٍ مَظْلُومًا نَصَرَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى الظُّلْمِ بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْهُ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي (الصَّحِيحِ) عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟! قَالَ: «تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ».

(10) وَإِذَا وَقَعَ بَيْنَ مُعَلِّمٍ وَمُعَلِّمٍ، أَوْ تِلْمِيذٍ وَتِلْمِيذٍ، أَوْ مُعَلِّمٍ وَتِلْمِيذٍ، خُصُومَةٌ وَمُشَاجَرَةٌ؛ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يُعِينَ أَحَدَهُمَا حَتَّى يَعْلَمَ الْحَقَّ، فَلَا يُعَاوِنُهُ بِجَهْلِ وَلَا بِهَوَى، بَلْ يَنْظُرُ فِي الْأَمْرِ؛ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ أَعَانَ الْمُحِقَّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُبْطِلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُحِقُّ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَصْحَابِ غَيْرِهِ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُبْطِلُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَصْحَابِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ ، وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ .

     قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135) .

يُقَالُ: لَوَى يَلْوِي لِسَانَهُ : فَيُخْبِرُ بِالْكَذِبِ وَالْإِعْرَاضُ: أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ؛ فَإِنَّ السَّاكِتَ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ

(11) وَمَنْ مَالَ مَعَ صَاحِبِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ - فَقَدْ حَكَمَ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَيَكُونَ الْمُعَظَّمُ عِنْدَهُمْ مَنْ عَظَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ مَنْ قَدَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمَحْبُوبُ عِنْدَهُمْ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُهَانُ عِنْدَهُمْ مَنْ أَهَانَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، بِحَسَبِ مَا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ، لَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ.

(12) فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِمْ اعْتِمَادُهُ. وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَفَرُّقِهِمْ وَتَشَيُّعِهِمْ ، فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(الأنعام: 159). وَقَالَ تَعَالَى : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران: 105). وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلَّمَهُ أُسْتَاذٌ عَرَفَ قَدْرَ إحْسَانِهِ إلَيْهِ وَشَكَرَهُ.

(13) وَلَا يَشُدُّ وَسَطَهُ لَا لِمُعَلِّمِهِ وَلَا لِغَيْرِ مُعَلِّمِهِ، فَإِنَّ شَدَّ الْوَسَطِ لِشَخْصِ مُعَيَّنٍ وَانْتِسَابَهُ إلَيْهِ - كَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ-: مِنْ بِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمِنْ جِنْسِ التَّحَالُفِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْعَلُونَهُ، وَمِنْ جِنْسِ تَفَرُّقِ قَيْسٍ وَيُمَنِّ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الشَّدِّ وَالِانْتِمَاءِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهَذَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِدُونِ هَذَا الشَّدِّ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهَذَا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَمَا قُصِدَ بِهَذَا مِنْ خَيْرٍ فَفِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ اسْتِغْنَاءٌ عَنْ أَمْرِ الْمُعَلِّمِينَ، وَمَا قُصِدَ بِهَذَا مِنْ شَرٍّ فَقَدْ حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

(14) فَلَيْسَ لِمُعَلِّمِ أَنْ يُحَالِفَ تَلَامِذَتَهُ عَلَى هَذَا، وَلَا لِغَيْرِ الْمُعَلِّمِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدًا مِنْ تَلَامِذَتِهِ لِيُنْسَبُوا إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْبِدْعِيِّ: لَا ابْتِدَاءً وَلَا إفَادَةً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ حَقَّ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ إفَادَةِ التَّعَلُّمِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَقُولَ : شُدَّ لِي، وَانْتَسِبْ لِي دُونَ مُعَلِّمِك الْأَوَّلِ، بَلْ إنْ تَعَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا يَتَعَصَّبُ لَا لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي ، وَإِذَا كَانَ تَعْلِيمُ الْأَوَّلِ لَهُ أَكْثَرَ كَانَتْ رِعَايَتُهُ لِحَقِّهِ أَكْثَرَ.

(15) وَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْء، بَلْ يَكُونُ كُلُّ شَخْصٍ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَلَا يَكُونُونَ مَعَ أَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

     وَلَا يَتَعَاوَنُونَ لَا عَلَى ظُلْمٍ، وَلَا عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا اتِّبَاعِ الْهَوَى بِدُونِ هُدَى مِنْ اللهِ، وَلَا تَفَرُّقٍ وَلَا اخْتِلَافٍ، وَلَا شَدِّ وَسَطٍ لِشَخْصِ لِيُتَابِعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحَالِفَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.

(16) وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إلَى أَحَد، وَلَا يَنْتَمِي أَحَدٌ: لَا لَقِيطًا وَلَا ثَقِيلًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا وَلَّدَهَا كَوْنُ الْأُسْتَاذِ يُرِيدُ أَنْ يُوَافِقَهُ تِلْمِيذُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَيُوَالِيَ مَنْ يُوَالِيهِ ، وَيُعَادِيَ مَنْ يُعَادِيهِ مُطْلَقًا. وَهَذَا حَرَامٌ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ أَحَدًا ، وَلَا يُجِيبَ عَلَيْهِ أَحَدًا، بَلْ تَجْمَعُهُمْ السُّنَّةُ، وَتُفَرِّقُهُمْ الْبِدْعَةُ؛ يَجْمَعُهُمْ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ مَعْصِيَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ أَوْ أَهْلَ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَا الطَّاعَةُ الْمُطْلَقَةُ إلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم .

(17) وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى عَادَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ: مَنْ عَلَّمَهُ أُسْتَاذٌ كَانَ مُحَالِفًا لَهُ، كَانَ الْمُنْتَقِلُ عَنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي ظَالِمًا بَاغِيًا نَاقِضًا لِعَهْدِهِ، غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِعَقْدِهِ؛ وَهَذَا أَيْضًا حَرَامٌ، وَإِثْمُ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِ؛ بَلْ مِثْلُ هَذَا إذَا انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ أُسْتَاذِهِ، وَحَالَفَهُ، كَانَ قَدْ فَعَلَ حَرَامًا؛ فَيَكُونُ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّهُ لَا بِعَهْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَوْفَى، وَلَا بِعَهْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَاعِبِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا دِينَ لَهُ وَلَا وَفَاءَ .

(18) وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُحَالِفُ الرَّجُلُ قَبِيلَةً، فَإِذَا وَجَدَ أَقْوَى مِنْهَا نَقَضَ عَهْدَ الْأُولَى وَحَالَفَ الثَّانِيَةَ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ هَؤُلَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91-94) .

(19) وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَدَعُوا بَيْنَهُمْ مَنْ يُظْهِرُ ظُلْمًا أَوْ فَاحِشَةً، وَلَا يَدَعُوا صَبِيًّا أَمْرَدَ يَتَبَرَّجُ ، أَوْ يُظْهِرُ مَا يَفْتِنُ بِهِ النَّاسَ، وَلَا أَنْ يُعَاشِرَ مَنْ يُتَّهَمُ بِعِشْرَتِهِ، وَلَا يُكْرَمَ لِغَرَضِ فَاسِدٍ.

(20) وَمَنْ حَالَفَ شَخْصًا عَلَى أَنْ يُوَالِيَ مَنْ وَالَاهُ وَيُعَادِيَ مَنْ عَادَاهُ : كَانَ مِنْ جِنْسِ التتر ، الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ. وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِن الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هَؤُلَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الشَّيْطَانِ، وَلَكِنْ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لِتِلْمِيذِهِ: عَلَيْك عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ أَنْ تَوَالِيَ مَنْ وَالَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتُعَادِيَ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتُعَاوِنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تُعَاوِنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ مَعِي نَصَرْتَ الْحَقَّ، وَإِنْ كُنْتُ عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ تَنْصُرْ الْبَاطِل؛ فَمَنْ الْتَزَمَ هَذَا كَانَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، انتهى كلامُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بنصِّهِ.

     هذا والحمدُ لله ربِّ العالمين. عسى الله - سبحانه وتعالى - أنْ يُرشدَنَا جميعًا طريقَ الباب المُخرج مِن الفِتْنَة، وأنْ يهدِيَنَا إلى نَبْذِ الخلافِ وذَمِّ التَّفَرُّقِ وكفِّ الشِّقَاقِ، وعدم التحزُّب، فالحزبيَّةُ أصلٌ أصيلٌ لكُلِّ خلافٍ وتفرقٍ وشقاقٍ. وأنْ يوفقَنَا جميعًا لأنْ نتعاونَ على البِرِّ والتَّقْوي. وربُّنَا المُوفِّقُ لا ربَّ سواه .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك