كتابات في الدفاع عن السنة(2) رسالة (منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن) للعلامة الألباني
استكمالاً لما بدأناه من استعراض لرسالة العلامة الألباني -رحمه الله- في الدفاع عن قضية السنة وهي بعنوان: (منزلة السنة من الإسلام، وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن)، وتعد من الرسائل المختصرة التي يُمكن تداولها وقراءتها وتدريسها، يقول الشيخ:
ضلال المستغنين بالقرآن عن السنة
ومن المؤسف أنه قد وجد في بعض المفسرين والكتاب المعاصرين من ذهب إلى جواز ما ذكر في المثالين الأخيرين من إباحة أكل السباع، ولبس الذهب والحرير، اعتمادًا على القرآن فقط، بل وجد في الوقت الحاضر طائفة يتسمون بـ(القرآنيين) يفسرون القرآن بأهوائهم وعقولهم، دون الاستعانة على ذلك بالسنة الصحيحة، بل السنة عندهم تبع لأهوائهم؛ فما وافقهم منها تشبثوا به، وما لم يوافقهم منها نبذوه وراءهم ظِهْريًا.
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هؤلاء بقوله في الحديث الصحيح: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه». رواه الترمذي، وفي رواية لغيره: «ما وجدنا فيه حرامًا حرمناه. ألا وإني أتيت القرآن ومثله معه». وفي أخرى: «ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله». بل إن من المؤسف أن بعض الكتاب الأفاضل ألف كتابًا في شريعة الإسلام وعقيدته، وذكر في مقدمته أنه ألفه، وليس لديه من المراجع إلا القرآن!
فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة قاطعة على أن الشريعة الإسلامية ليست قرآنًا فقط، وإنما هي قرآن وسنة؛ فمن تمسك بأحدهما دون الآخر، لم يتمسك بأحدهما؛ لأن كل واحد منهما يأمر بالتمسك بالآخر كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وبمناسبة هذه الآية يُعجبني ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو أن امرأة جاءت إليه، فقالت له: أنت الذي تقول: لعن الله النامصات والمتنمصات والواشمات... الحديث؟ قال: نعم، قالت: فإني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجد فيه ما تقول، فقال لها: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، قالت: بلى، قال: فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن الله النامصات...» الحديث. متفق عليه.
عدم كفاية اللغة لفهم القرآن
ومما سبق يبدو واضحًا أنه لا مجال لأحد مهما كان عالـمًا باللغة العربية وآدابها أن يفهم القرآن الكريم دون الاستعانة على ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية؛ فإنه لم يكن أعلم في اللغة من أصحاب النبي، الذين نزل القرآن بلغتهم، ولم تكن قد شابتها لوثة العجمة والعامية واللحن، ومع ذلك فإنهم غلطوا في فهم الآيات السابقة، حين اعتمدوا على لغتهم فقط.
وعليه فمن البدهي أن المرء كلما كان عالـمًا بالسنة كان أحرى بفهم القرآن، واستنباط الأحكام منه ممن هو جاهل بها، فكيف بمن هو غير معتد بها ولا ملتفت إليها أصلا؟
ولذلك كان من القواعد المتفق عليها بين أهل العلم: أن يُفسر القرآن بالقرآن والسنة ثم بأقوال الصحابة... إلخ.
ومن ذلك يتبين لنا ضلال علماء الكلام قديمًا وحديثًا، ومخالفتهم للسلف -رضي الله عنهم- في عقائدهم، فضلًا عن أحكامهم، وهو بُعدهم عن السنة والمعرفة بها، وتحكيمهم عقولهم وأهواءهم في آيات الصفات وغيرها.
وما أحسن ما جاء في (شرح العقيدة الطحاوية): «وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وبما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ. لكن إن أصاب يُضاعف أجره».
ثم قال: فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم ، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولًا، أو نحمله شبهة أو شكًّا، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المرسِل -سبحانه وتعالى- بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.
وجملة القول: إن الواجب على المسلمين جميعًا ألا يفرقوا بين القرآن والسنة؛ من حيث وجوب الأخذ بهما كليهما وإقامة التشريع عليهما معًا؛ فإن هذا هو الضمان لهم ألا يميلوا يمينًا ويسارًا، وألا يرجعوا القهقرى ضلالًا، كما أفصح عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض». رواه مالك بلاغًا، والحاكم موصولًا بإسناد حسن.
تنبيه مهم
ومن البدهي بعد هذا أن نقول:
إن السنة التي لها هذه الأهمية في التشريع إنما هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالطرق العلمية والأسانيد الصحيحة المعروفة عند أهل العلم بالحديث ورجاله، وليست هي التي في بطون مختلف الكتب من التفسير والفقه والترغيب والترهيب والرقائق والمواعظ وغيرها؛ فإن فيها كثيرًا من الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة؛ وبعضها مما يتبرأ منه الإسلام، مثل حديث هاروت وماروت، وقصة الغرانيق، ولي رسالة خاصة في إبطالها وهي مطبوعة، وقد خَرَّجْتُ طائفة كبيرة منها في كتابي الضخم (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة)، وقد بلغ عددها حتى الآن قرابة أربعة آلاف حديث، وهي ما بين ضعيف وموضوع، وقد طبع منها خمسمائة فقط!
فالواجب على أهل العلم -ولاسيما الذين ينشرون على الناس فقههم وفتاويهم- أن لا يتجرؤوا على الاحتجاج بالحديث إلا بعد التأكد من ثبوته؛ فإن كتب الفقه التي يرجعون إليها عادة مملوءة بالأحاديث الواهية المنكرةـ، وما لا أصل له كما هو معروف عند العلماء.
ضعف حديث معاذ في الرأي وما يُستنكر منه
وقبل أن أنهي كلمتي هذه أرى أنه لا بد لي من أن ألفت انتباه الإخوة إلى حديث مشهور، قلما يخلو منه كتاب من كتب أصول الفقه؛ لضعفه من حيث إسناده، ولتعارضه مع ما انتهينا إليه في هذه الكلمة من عدم جواز التفريق في التشريع بين الكتاب والسنة، ووجوب الأخذ بهما معا. ألا وهو حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أرسله إلى اليمن: «بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يحب رسول الله».
أما ضعف إسناده فلا مجال لبيانه الآن، وقد بيَّنت ذلك بيانًا شافيًا، ربما لم أسبق إليه في السلسلة السابقة الذكر، وحسبي الآن أن أذكر أن أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قال فيه: (حديث منكر).
وبعد هذا يجوز لي أن أشرع في بيان التعارض الذي أشرت إليه فأقول: إن حديث معاذ هذا يضع للحاكم منهجًا في الحكم على ثلاث مراحل لا يجوز أن يبحث عن الحكم في الرأي إلا بعد ألا يجده في السنة، ولا في السنة إلا بعد ألا يجده في القرآن، وهو بالنسبة للرأي منهج صحيح لدى كافة العلماء وكذلك قالوا إذا ورد الأثر بطل النظر.
ولكنه بالنسبة للسنة ليس صحيحًا؛ لأن السنة حاكمة على كتاب الله، ومبينة له؛ فيجب أن يبحث عن الحكم في السنة، ولو ظن وجوده في الكتاب لما ذكرنا فليست السنة مع القرآن كالرأي مع السنة، كلَّا ثم كلَّا، بل يجب اعتبار الكتاب والسنة مصدرًا واحدًا لا فصل بينهما أبدًا، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «ألا إني أتيت القرآن ومثله معه» يعني السنة، وقوله: «لن يتفرَّقا حتى يردا علي الحوض». فالتصنيف المذكور بينهما غير صحيح؛ لأنه يقتضي التفريق بينهما، وهذا باطل لما سبق بيانه.
لاتوجد تعليقات