طلب العلم الإلكتروني: وسيلة شرعية أم بدعة حضارية؟
لم يشهد عصر من العصور التقدم التقني الذي شهده هذا العصر في مناح متعددة، من أهمها الثورة الهائلة التي حدثت في تقنيات الاتصالات والمعلومات التي توجت أخيرا بشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).
وقد استثمر التعليم هذا التقدم بطريقة موازية في وسائله، فظهرت الاستفادة من هذه التقنيات داخل حجرة الدراسة وبين أروقة الجامعة، ثم تطور الأمر إلى تأسيس تعليم متكامل معتمد على هذه التقنيات، وهو ما سمي بالتعليم الإلكتروني أو الافتراضي، أو التعليم عن بعد.
وأدى انتشار هذا النوع من التعليم إلى تفعيل التعليم الذاتي أو التعليم الفردي؛ حيث لم يعد المتعلم في حاجة إلى الانتظام في بيئة تعليمية بالمفهوم التقليدي للتعلم الذي يفرض عليه الوجود فيها حيث التلقي مباشرة من المعلم.
ويعرف التعليم الإلكتروني على أنه التعليم الذي يهدف إلى إيجاد بيئة تفاعلية غنية بالتطبيقات المعتمدة على تقنيات الحاسب الآلي والشبكة العالمية للمعلومات، وتمكّن الطالب من الوصول إلى مصادر التعلم في أي وقت ومن أي مكان.
والهدف من ذلك هو توسيع مفهوم عملية التعليم والتعلم لتجاوز حدود الفصول التقليدية والانطلاق لبيئة غنية متعددة المصادر حيث يتم التعليم عن طريق الاتصال والتواصل بين المعلم والمتعلم عن طريق استخدام وسائل التعليم الإلكترونية كالدروس الإلكترونية والمكتبة الإلكترونية والكتاب الإلكتروني وغيرها.
ولأن طلبة العلوم الشرعية ليسوا بمعزل عن التقنيات والوسائل التكنولوجية باعتبارها من الوسائل الشرعية؛ لذلك كانوا من الشرائح المهمة التي تأثرت واستفادت من هذا النوع من أنواع التعلم الذي أوجد لهم بيئات دراسية وحلقات تعليمية وحوارية بطرائق شتى سَهُل عليهم من خلالها التواصل مع المشايخ والعلماء سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة من خلال الغرف الافتراضية (البالتوك) أو من خلال اللقاءات غير المباشرة في المنتديات ومواقع كبار العلماء والمشايخ، وكذلك الحصول على أي مادة علمية سواء كانت صوتية أم مرئية أم مقروءة في أي وقت وفي أي مكان.
ثم تطور الأمر بظهور الجامعات الأكاديمية التي مكنت الطالب من الحصول على شهادة أكاديمية في العلوم الشرعية مثله مثل أي طالب يدرس في الجامعات التقليدية، وذلك من خلال التسجيل الإلكتروني وفق الشروط والضوابط التي تضعها كل جامعة وفق رؤيتها وسياستها.
والأمثلة كثيرة منها على سبيل المثال جامعة المدينة العالمية، وجامعة المعرفة، والأكاديمية الإسلامية، وغيرها من الجامعات العديدة التي ملأت الشبكة العنكبوتية.
وقبل التعرف على تلك الجامعات عن قرب ومدى فاعلية هذا النوع من أنواع التعليم في إيجاد طالب متميز له القدرة على منافسة أقرانه من خريجي الجامعات التقليدية، وكذلك رأي المشايخ والعلماء في مثل هذا النوع من التعلم، لابد من التعرف على مفهوم والتعليم الإلكتروني وماهيته، والتطور التاريخي له، ومن ثم نحاول دراسة هذه الظاهرة على أرض الواقع إن شاء الله.
بداية: لماذا التعليم الإلكتروني؟
قبل الحكم على فاعلية أو عدم فاعلية هذا النوع من التعليم يجب أن يطرح مثل هذا السؤال، وللإجابة عنه نجد أن هناك مجموعة من العوامل التي شجعت على وجود هذا النوع من التعليم ومنها:
إتاحة الفرصة لأكبر عدد من فئات المجتمع للحصول على التعليم والتدريب ولاسيما:
طلبة العلم المتميزين الذين لم يتمكنوا من الحصول على الشهادة الجامعية في العلوم الشرعية.
كبار السن الذين ارتبطوا بوظائف وأعمال، ولم يتمكنوا من إكمال دراستهم الجامعية أو عندهم رغبة قوية في دراسة العلوم الشرعية.
المرأة المسلمة ولاسيما في ظل ارتباطها الأسري؛ فإننا نرى أن هذا النوع من التعليم ضروري لربات البيوت، ومن يتولين رعاية المنازل وتربية أبنائهن.
إيجاد بيئة تعليمية أكاديمية تقوم على منهج أهل السنة والجماعة وعقيدتهم في ظل الاختراق الكبير الذي حدث لكثير من مناهج المؤسسات والجامعات الرسمية ومنها على سبيل المثال جامعة الأزهر.
التغلب على عوائق المكان والزمان، وتقليل تكلفة التعليم على المدى الطويل.
الاستغلال الأمثـل للموارد البشرية والمادية (حل مشكلة التخصصات النادرة).
لمحة تاريخية عن التعليم عن بعد:
التعليم عن بعد فكرة عالمية قديمة نشأت في بريطانيا منذ مائة عام تقريباً وانتقلت إلى أمريكا وكندا واستراليا وغيرها من دول العالم، وهو جزء مشتق من التعليم الإلكتروني بدأ في الظهور مع بداية ما يعرف بالتعليم عن طريق المراسلة؛ حيث يراسل الطالب الجامعة فيرسلون له كتبًا وأشرطة بعد أن يدفع ثمنها بحوالة بريدية، وكان ذلك عام 1873م بمساعدة من الكنائس المسيحية من أجل نشر التعليم بين الأمريكيين.
ثم تطور الأمر بصورة كبيرة منذ هذا التاريخ حتى أواخر 1980؛ حيث تأسست أربع جامعات في أوروبا وأكثر من عشرين حول العالم تطبق تقنية التعليم عن بعد، واستطاعت تلك الجامعات باستخدام التكنولوجيا الجديدة أن تختصر المسافات الكبيرة بين المتعلمين والمعلمين، وأصبح الطرفان يسمع بعضهما بعضاً، باستخدام الحاسوب والإنترنت والوسائط المتعددة لتحقيق أقصى قدر من الفاعلية حتى أصبح بالإمكان تحضير رسالتي الماجستير والدكتوراه بواسطة التعليم عن بعد.
واقع التعليم الإلكتروني في المنطقة العربية:
أما عن واقع التعليم عن بعد في المنطقة العربية فما زالت السوق العربية تتحسس طريقها ببطء إلى هذا النمط من الاستثمارات التعليمية، غير أن التوقعات تشير إلى أن المستقبل سيكون واعدا حال تلافي العوائق التي تواجهه، فعلى سبيل المثال فإن سوق التعليم الإلكتروني قُدرت في الإمارات عام 2004 بحوالي 14 مليون دولار أمريكي، ووصلت إلى 56 مليون دولار في عام 2008، وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة.
أما في السعودية، فقد أوضحت دراسة حديثة تزايد حجم سوق التعليم الإلكتروني في هذا البلد ليصل إلى 470 مليون ريال سعودي في عام 2008، مقارنة بـ 112 مليون ريال عام 2002.
ورغم التحديات التي تواجهها الدول العربية، فإن قلة منها لديها رؤية واضحة لتوفير بيئة لاستثمار التعليم الإلكتروني، فقد انطلقت تجارب ناجحة عدة، ففي دبي أعلن عن إنشاء مدينة دبي للإنترنت، ومنها انبثقت الكلية الإلكترونية للجودة الشاملة، وبرامج متعددة في جامعات وكليات الإمارات، وجامعة آل لوتاه العالمية في دبي التي تقدم على شبكة الإنترنت دراسات جامعية متنوعة.
وفي سورية تم افتتاح الجامعة الافتراضية السورية لتقدم دراسات باختصاصات متنوعة، كما أعلن في الكويت عن قيام جامعة العرب الإلكترونية التي بدأت تقدم دوراتها بتخصصات ومناهج متنوعة، كما يوجد في السعودية 10 مؤسسات مرتبطة بجهات عالمية تعمل في مجالات التعليم الإلكتروني.
إذاً.. فثمة سوق عربية آخذة في النمو من خلال المبادرات الحكومية أو الخاصة، بل إن هذا النوع من التعليم يطرح فرصا استثمارية بأشكال مختلفة الحجم سواء كانت صغيرة أم متوسطة أم كبيرة، ولكن يظل التساؤل مطروحا حول متطلبات فرص الاستثمار في هذا المجال، حتى يكتب لها النجاح، ولاسيما في ظل وجود معوقات مطروحة تبطئ من نمو هذا القطاع في الفترة الحالية.
ولعل أهم عقبة يقابلها هذا النوع من التعليم في السوق العربية هو عدم تقبل سوق العمل لحامل هذه المؤهلات، وعدم الثقة في قدراتهم والتشكيك في مصداقية وأهلية هؤلاء الخريجين، فهل حقًا هذه الشكوك في محلها؟ وهل الدراسة في هذه الجامعات ولاسيما المتخصصة منها في العلوم الشرعية وسيلة شرعية لإخراج طالب علم لديه القدرة على تبوؤ تلك المكانة السامية للعلماء الربانيين الذين تربوا على أيدي العلماء والمشايخ في حلق العلم؟ أم هي بدعة حضارية لا ندرك خطورتها في الوقت الراهن؟! هذا هو ما سنجيب عنه في الحلقات القادمة إن شاء الله.
لاتوجد تعليقات