السفر قطعة من العذاب
بعض الناس يحمل نفسه مشاق مالية وبدنية وتبعات مرهقة في مقابل ترفيه قليل، وراحة وجيزة يتبعها آلام طويلة، مادية ومعنوية
جاءت الإشارة في السنة المطهرة إلى تقدير المصالح والمفاسد، والموازنة بين المغانم والمغارم قبل الإقدام على السفر
مع اقتراب العطلة الصيفية يبدأ التخطيط للسفر، وتحديد وجهات المغادرة للأفراد والأسر، والسفر إن خلا من المعاصي والمحرمات فهو من المباحات المرخص فيها، وقد يكون واجبا لأداء الواجبات كالحج مثلا.
ولما كان السفر مظنة المشقة جعله الشارع من أسباب التخفيف والأخذ بالرخص؛ فللمسافر أن يأخذ رخص السفر، سواء وجد مشقة في الواقع أم لم يجد؛ إذ العبرة بالأغلب وهذا من -رحمة الله تعالى- بعباده.
ومع أن الله -تعالى- يخفف عن عباده بما رخص لهم، إلا أن بعض الناس يحمل نفسه مشاق مالية وبدنية وتبعات مرهقة في مقابل ترفيه قليل، وراحة وجيزة يتبعها آلام طويلة، مادية ومعنوية، من مشقة السفر، ومؤنة الديون والقروض؛ مما حدا ببعض البنوك لاستغلال هذه الرغبة الجامحة لدى مغرمي السفر بتقديم تسهيلات لدفعهم للاقتراض، ولتوريطهم في شباك الديون والفوائد.
فقد جاء في جريدة الرأي الكويتية بتاريخ 29 ديسمبر 2013: «إن بعض البنوك بدأت تستوعب بأن سوق السفر بات مؤهلا للتحول إلى واحد من أوجه التمويل المهمة في السوق المحلي، ولاسيما بعد استمرار ارتفاع معدلات المخاطر أمام العديد من القروض التقليدية، وتراجع فرص التمويل الآمن، كما أن رقميا تشير الدراسات إلى أن حجم الأموال التي أنفقت على النقل الجوي فقط من كويتيين خلال الصيف الماضي تتجاوز مليار دولار، علما بأن الإحصائيات تضع المسافر الكويتي ضمن قائمة الأشخاص الأعلى إنفاقا في السفر بمتوسط يقارب 7 آلاف دولار للفرد.
يشار إلى أن عدد مكاتب السفر وصلت في الفترة الأخيرة إلى أكثر من 300 مكتب مرتفعا من 160 مكتبا قبل عامين، ما يعكس الاهتمام الواضح بمستقبل هذه السوق، ما قاد بعض البنوك إلى اقتراح إدراج تمويل السفر ضمن أغراض القروض الاستهلاكية.
ويقول الدكتور عمر سالم الشامري -المستشار المالي وخبير اقتصاديات الاسرة-: قضاء العطل في الخارج بالسفر لمدة أيام أو أسابيع دون تخطيط جيد، يمكن أن يرهق ميزانية الأسرة طوال العام؛ لأن قروض السفر سعادة مؤقتة، فهي تنتهي مع انتهاء فترة السفر ليعود المسافر بعد ذلك ليجد نفسه أمام الأعباء المالية التي ترتبت على ذلك.
ولهذا جاءت الإشارة في السنة المطهرة إلى تقدير المصالح والمفاسد، والموازنة بين المغانم والمغارم قبل الإقدام على السفر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله» متفق عليه.
يبين النووي كيف أن السفر يمنع المباحات فقال: معناه: يمنعه كمالها ولذيذها؛ لما فيه من المشقة والتعب، ومقاساة الحر والبرد، والسرى والخوف، ومفارقة الأهل والأصحاب، وخشونة العيش.
والمقصود في هذا الحديث: استحباب تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء شغله، ولا يتأخر بما ليس له بمهم.
وقال الحافظ ابن حجر: قوله: «السفر قطعة من العذاب» أي: جزء منه، والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة؛ لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف.
وقوله: «يمنع أحدكم» المراد بالمنع في الأشياء المذكورة منع كمالها لا أصلها.
وقوله: «نهمته» بفتح النون وسكون الهاء أي حاجته من وجهه أي من مقصده.
وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع ولاسيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة؛ ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا؛ ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة.
وذكر أن إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه سئل: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحباب.
وأخرج البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «كنت مع عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد -وهي زوجته- شدة وجع فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق، ثم نزل فصلى المغرب والعتمة يجمع بينهما وقال: «إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما».
قال المهلب: تعجله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليريح نفسه ويفرح أهله، وتعجل ابن عمر إلى زوجته ليدرك من حياتها ما يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهد إلى غيره .
قال بدر الدين العيني: العرب تشبه الرجل في أهله بالأمير، وقيل: في قوله تعالى: {وجعلكم ملوكا}(المائدة:20) قال: من كان له دار وخادم فهو داخل في معنى الآية.
قال الباجي: قوله: «فليعجل إلى أهله» يحتمل أن يريد به التعجيل عند السير من ترك التلوم، وذلك نص، ويحتمل أن يريد به التعجيل في السير إلى الأهل لحاجتهم إلى تقويته وقيامه بأمرهم؛ وجعل ذلك مما يبيح التعجيل في السير».
وقال الشيخ ابن عثيمين: قوله: «إن السفر قطعة من العذاب»، يعني بذلك عذاب الضمير، وعذاب الجسم، ولاسيما الذي كان في الزمن السابق؛ حيث تكون الأسفار على الإبل، ويكون فيها مشقات كبيرة، وخوف، وبرد في الشتاء، وحر في الصيف، فإذا كان كذلك فليرجع الإنسان إلى الراحة إلى أهله وبلده ليقوم على أهله بالرعاية والتأديب وغير ذلك، وفي هذا دليل على أن إقامة الإنسان في أهله أفضل من سفره إلا أن يكون هناك حاجة، ووجهه أن أهله يحتاجون إليه؛ ولهذا لما قدم مالك بن الحويرث ومعه نحو عشرين رجلا من قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقاموا عنده نحو عشرين ليلة، ورأى أنهم قد اشتاقوا إلى أهلهم قال: «ارجعوا إلى أهليكم، وأقيموا فيهم وأدبوهم وعلموهم»، فدل ذلك على أن الإنسان لا ينبغي أن يغيب عن أهله إلا بقدر الحاجة، وإلا فليرجع، هذا هو الأفضل». ولاشك أن في السفر فوائد عديدة كما قال الشافعي -رحمه الله-:
تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تَفَرُّج همٍّ، واكتساب مــعيشة وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
لكن يرد هنا سؤال: هل كل من يسافر في الصيف يقصد تلك الفوائد؟ أم أن القضية عادة سنوية يتجشمها الإنسان منعا للحرج الاجتماعي ودفعا للضغط الأسري؟ ولو كان ذلك على حساب دينه وماله ومصالحه الأهم، نحتاج إلى وقفة صدق مع النفس، والله المستعان.
لاتوجد تعليقات