شرح كتاب النَّفَقات من مختصر مسلم – باب: في الابْت
شرح كتاب النَّفَقات من مختصر مسلم - باب: في الابْتداء بالنَّفسِ والأهْل وذي القَرابة
النَّفقات جَمع نفقة، وهي لغةً: ما يُنْفقه الإنْسانُ على عياله، وشَرْعاً: هي الطَّعام والكِسْوة والسُّكنى، وتجبُ بأسبابٍ ثلاثة: الزوجية، والقرابة، والملك، ولمّا كانت الزوجية أصْل النَّسب، والنَّسب أقوى من الملك، بدأ العلماء والفقهاء بالزوجية، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على وجوب نفقة الزوجات على الأزواج، والأولاد على الآباء، يقول الله -تعالى-: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة:233)، وقال -تعالى-: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّه} (الطلاق: 7).
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ- زاد في رواية: مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَذْكُورٍ- مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ- في الرواية الأخرى: يُقَالُ لَهُ يَعْقُوبُ- فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: «أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟» فَقَال: لَا، فَقَال: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي» فاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عبداللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِي مِائَةِ دِرْهَمٍ، فجَاءَ بِها رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَال: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْها، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ؛ فَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ، وعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ»، الحديث رواه مسلم في الزكاة (/692-693) باب: الابتداء في النّفقة بالنّفس ثمّ أهله ثم القرابة، ورواه البخاري في كتاب العتق (2534) باب: بيع المُدبّر، مختصرا.
يَرْوي جابرُ بنُ عبداللهِ قصَّة، فيقولُ: «أعتَقَ رجُلٌ من الأنصار يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَذْكُورٍ- مِن بني عُذْرةَ عبْداً» وفي رواية «أعتق غلاما له عن دبر يقال له: يعقوب». بنو عذرة قبيلة حميرية كانت تقطن في وادي القُرى، ينسب إليها الحبُّ العذري العفيف، ومنها الشاعر: جميل بن معمر العذري، الملقب جميل بثينة، قال الحافظ: فلعله كان من بني عذرة وحالف الأنصار.
قوله: «عن دُبُرٍ» أي: أعتق الرَّجلُ عبده لكنْ عن دُبر، أي أنَّه بعدَ أنْ يَموتَ، يُصبِحُ مَملوكُه حُرًّا.
«ألكَ مالٌ غيرُه؟»
وقوله: «فبلَغَ ذلك رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فقال: «ألكَ مالٌ غيرُه؟» فقال: لا، فدعا به النّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَنْ يَشتريه؟» أي: الغلام؛ فتبيَّنَ مٍنْ قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفعله أنَّ سَببَ بَيعِه للعبدِ هو كونُ المعتِقِ فقيراً لا يَملِكُ شيئًا غيرَ هذا العبدِ؛ «فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن يَشتريهِ منِّي؟» أي: عَرَضه على الناس للبيع. وفيه: جواز المزايدة عند البَيع.
قوله: «فاشْتراهُ نُعَيمُ بنُ عبداللهِ العَدويُّ»
وفي رواية للبخاري «نُعيم بن النحام» وهو نُعيم بن عبدالله المذكور، والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة عند الجمهور، وضبطه ابن الكلبي بضم النون وتخفيف الحاء، وهو لقب نُعيم، وظاهر الرواية أنّه لقب أبيه، والنَّحْمة بفتح النون وإسكان المهملة: الصوت. وقيل: السّعلة. وقيل: النَّحْنحة.
ونعيم المذكور هو ابن عبدالله بن أسيد بن عبد بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، قرشيٌ عدوي، أسْلمَ قديماً قبل عمر فكتَم إسلامه، وأرادَ الهجرة فسَأله بنو عدي أنْ يُقيم على أيّ دينٍ شاء؛ لأنّه كان يُنْفق على أراملهم وأيْتامهم، ففعل، ثمّ هاجر عام الحديبية ومعه أربعون منْ أهل بيته، واستشهد في فتوح الشام زمن أبي بكر أو عمر. وروى الحارث في مسنده بإسنادٍ حسن: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سمّاه صَالحاً، وكان اسمه الذي يعرف به: نعيما.
قوله: «بثَمانِي مِئةِ دِرهمٍ»
قوله: «بثَمانِي مِئةِ دِرهمٍ، فجاء بها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فدفَعَها إليه» أي: باعه بهذا الثمن، واختلف الفقهاء في بيع المُدّبر، وأنّ الجَواز مُطلقا مذهب الشافعي وأهل الحديث، وقد نقله البيهقي في «المعرفة» عن أكثر الفُقهاء، وحكى النووي عن الجمهور مقابله. وعن الحنفية والمالكية أيضاً: تخصيص المَنع بمَن دبّر تدبيراً مطلقا، أمّا إذا قيده - كأن يقول: إنْ متّ مِنْ مَرَضي هذا، ففلانٌ حر- فإنّه يجوز بيعه؛ لأنّها كالوصية، فيجوز الرّجوع فيها، وعن أحمد: يمتنع بيع المدبرة دون المدبر، وعن الليث: يجوز بيعه إنْ شَرَط على المشتري عِتْقه. وعن ابن سيرين لا يجوز بيعه إلا من نفسه، ومال ابن دقيق العيد إلى تقييد الجواز بالحاجة، فقال: مَنْ مَنَع بيعه مطلقاً، كان الحديث حُجّة عليه؛ لأنّ المَنْع الكلّي يناقضه الجواز الجزئي. ومن أجازه في بعض الصور، فله أنْ يقول: قلت بالحديث في الصورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به في غير ذلك من الصور.
وأجاب مَنْ أجازه مُطْلقاً بأنَّ قوله: «وكان مُحتاجا» لا مَدْخل له في الحُكم، وإنّما ذكر لبيان السبب في المبادرة لبيعه، ليتبيّن للسيد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى. (الفتح).
ابدَأْ بنفْسِك فتَصدَّقْ عليها
ثمَّ قال: «ابدَأْ بنفْسِك فتَصدَّقْ عليها»، أي: اهتَمَّ بنفْسِك وتَصدَّقْ عليها، بإكْرامِها وإعطائها ما تحتاجه، والنَّفقةِ عليها بالخيرِ، «فإنْ فضَلَ شَيءٌ فلِأهْلِك»، أي: إنْ زاد شيء، فهو لأهْلِك، أي: زوجتك وأولادك، فتُنفِقُه عليهم، «فإنْ فضَلَ عن أهْلِك شيءٌ فلِذي قَرابتِك» أي: لِأقْرِبائك الذين لَيسوا مِنْ أهْلِك الخاصين.
ثمَّ قال: «فإنْ فضَلَ عنْ ذي قَرابتِك شيءٌ؛ فهكذا وهكذا»، أي: تَتصدَّقُ به في وُجوهِ الخَيرِ، في كل الجهات. كما بيَّنَه بقولِه: «يقول: فبيْن يَدَيك، وعن يَمينِك، وعن شِمالِك».
قال العلماء: وهذا التَّرتيبُ إذا تأمَّلْتَه، علِمْتَ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قدَّم الأَوْلى، فالأَوْلى، والأقْربَ؛ وهو أنَّه أمَرَه بأنْ يَبدَأَ بنفْسِه، ثمّ بأهْلِه؛ مِنَ الزَّوجةِ، والولدِ، والوالدَينِ، ثمَّ الأقاربِ، ثم ما بقِيَ فيُمكِنُه التَّصرُّفُ فيه.
ما يُسْتفاد مِنَ الحديث
1- رتَّبَ الإسْلامُ أولويَّاتِ الناسِ في النَّفقةِ والصَّدقةِ، وعلَّمَنا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ حتى تَسِيرَ الحياةُ سيرا صحيحا، ولا يُظلَمُ فيها أحدٌ، ولا تَضطرِبُ الحُقوقُ والواجباتُ عندَ الناسِ باختلاف العقول والأهواء.
2- وفيه: أنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ الصَّدقةُ على النفْسِ، ثمَّ الأهلِ، ثمَّ الأقرباءِ.
3- وفيه: أنَّ الحُقوقَ إذا تَزاحَمت قُدِّمَ الأوكدُ، فالأوكدُ.
4- وفيه: أنَّ الأفضلَ في صَدقات التَّطوُّعِ أنْ يُنوِّعَها الإنسانُ في جِهاتِ الخيرِ بحَسبِ المصلحةِ، ولا يَنحصِرُ في جِهةٍ بعَينِها، ليعمّ النّفع.
5- يجوزُ للإمام والقاضي بيع المدبّر لحاجة مَنْ دَبّره أو حاجة أهله.
6- ومثله: جوازُ الحَجْر على المُفْلس، وبيع ماله بغير رضاه لمَصْلحته ومصلحة الناس.
لاتوجد تعليقات