شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم – باب: ترك الطِّيب
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً، ولَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغاً إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، ولَا تَكْتَحِلُ، ولَا تَمَسُّ طِيباً، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ». الحديث رواه مسلم في الباب السابق (2/1127)، ورواه البخاري في الطلاق باب: تلبس الحادّة ثياب العَصْب (5342)، ونحوه في (5341) باب: القِسْط للحَادّة عند الطُّهر.
قوله: «لا تُحدُّ» بالرّفع على النّفي، وبالجَزْم على النّهي. «فوقَ ثلاث» ثلاث ليالٍ بأيامها، ففي هذا الحديث ينهى النّبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة أن تُحِدَّ على ميّت مِنْ أقاربها فوقَ ثلاث، لأنّ الثلاث كافية للقيام بحقّ القريب، والتّفريج عن النفس الحزينة، ما لمْ يكن الميت زوجها، فلا بدّ من الإحْداد عليه أربعة أشْهر وعشراً، قياماً بحقّه الكبير، وتصوُّنا في أيام عدّته، والتأسّف على ما فاتها من العشرة والصُّحبة.
معنى الإحداد
والإحْداد: هو تَرْكُ الزِّينة، مِنَ الثّياب المَصْبوغة الجميلة، والطّيب، والكُحْل، والحُليّ، مِنَ المرأة المتوفى عنها زوجُها أو قريبها، فلا تستعمل شيئاً مِنْ ذلك، لكن لا يجب الإحْداد إلا على الزّوج، أمّا غيرُ الزوج، فلها أنْ تُحدّ عليه ثلاثة أيام إنْ شاءت، لحديث الباب، ولما رَوت أم سلمة -رضي الله عنها-: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المُتَوفّى عنها زوجُها لا تَلْبس المُعَصْفَر مِنَ الثّياب، ولا المُمشَّقة، ولا الحُليَّ، ولا تَخْتضبُ، ولا تَكْتحل». رواه أبو داود في الطلاق (2304) والنسائي (6/203-204) وأحمد (302) وهو حديث صحيح.
ما تجتنبه المعتدة
فتَجتنب المعتدّة أمورا من الزّينة في نفْسِها:
أولا: يَحْرمُ عليها زينة الثياب
فتَحْرُمُ عليها الثّيابُ المَصْبوغة للتَّحْسين، كالمُعَصْفر وسائر الأحْمر، وسائر الملوّن للتّحسين، كالأزْرق الصّافي، والأخْضر الصافي، والأصْفر، كلّها، فلا يجوزُ لها لُبْسُه، لحديث أم عطيّة الأنصارية: «ولا نلبَسُ ثوباً مَصْبُوغاً إلا ثوبَ عَصْب». والعَصْب: هي ثيابٌ مِنَ اليمن، فيها بياضٌ وسواد. والعَصبْ: نبتٌ تُصبغ به الثياب. وفي القاموس: هو شجر اللبلاب، قال الحافظ: وهي بُرود اليمن، يُعْصب غزلها، أي: يُرْبط ثمَّ يصبغ، ثمّ يَنسج معصوباً، فيخرج موشَّى، لبقاء ما عُصِبَ أبيض لمْ ينصبغ. وإنّما يُعْصب السّدى دون اللحمة، فمعنى الحديث: إلا ما صبغ غزله قبل نسجه، ولمْ يكنْ زاهيًا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا المُمَشّقة». قال القاضي: «والمُمشّقة» هي المصبوغة بالمشق، وهو الطّين الأحمر.
قال ابن قدامة: «فأرْخَصَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للحادّة في لبس ما صُبغ بالعَصْب، لأنّه في معنى ما صُبغ لغير التّحْسين، أمّا ما صُبغ للتّحسين، كالأحمر والأصفر، فلا معنى لتَجويز لبسه مع حُصول الزينة بصُبْغه، كحصُولها بما صبغ بعد نسجه». «المغني» (9/169)، وأمّا ما لا يُقصد بصبغه حُسْنُه، كالكُحْلي والأسود والأخضر المُشبع (الغامق) فلا تُمْنَعُ منه، لأنه ليس بزينة، ولا يجوز لها لبس الحرير؛ لأنّه مِنْ ثياب الزينة. حكى فيه ابن المنذر الإجماع في كتابه: (ص88).
ثانيا: تُمنع المرأة المُحدّ مِنَ الكُحْل
تُمنع المرأة المُحدّ مِنَ الكُحْل، ولو للعِلاج به، كما جاء في الحديث السابق، ويُمكن لها العِلاج بغير الكحل مِنَ الأدوية.
- ثالثاً: الحُلي: فيَحْرم عليها لبْسُ الحُلي كلّه، حتى الخاتم، في قول عامّة أهل العلم، لقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا الحُليّ» ولأنّ الحليَّ يزيد في حُسْن المَرأة، ويدعو إلى مُباشَرتها، ويدخل في الحلي: كلّ أشكال الذّهب والفضّة، والجواهر كالألْماس والياقوت وغيرهما.
ثالثا: الطِّيب والبُخُور بأنواعه
فيَحرم على المَرأة الحاد: اسْتعماله في بَدَنِها وثيابها، ولا خلافَ بين أهلِ العلم في ذلك، لحديث الباب، وحديث زينب السابق، لكن أُبيح لها أنْ تَجْعلَ في فَرْجها إذا طَهُرت مِنْ حيضها قطعة يَسيرة المِسْك، أو غيره من الأشياء المُزيلة للرائحة الكريهة، كما في رواية الأخرى لمسلم: «عِنْدَ أَدْنَى طُهْرِهَا، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وأَظْفَار».
نبذة بضم النون وسكون الباء، بعدها ذال معجمة، أي: قِطْعة، ويُطلق على الشيء اليسير، وقُسْط بضم القاف وسكون السّين المهملة، نُوع مِنَ البُخُور، وأظفار: بفتح الهمزة، «والقسط» و»الأظفار» نوعان مِنَ البُخور.
وكذا يحرم عليها استعمال الأدهان المُطيَّبة، كدهن العود والورد والياسمين، والبنفسج، وكذا ما أشبهه مِنَ الكريمات المُعطّرة، والصابون المُطيّب والشّامبو، فتستعمل السّدْر وما شابهه.
أمَّا الأدهان غير المُطِّيبة، كزيتِ الزَّيتون، وزيت النّخيل، والشّيرج (زيت السّمسم) وغيرها، فالأظْهَر جوازها لعدم ورود الدَّليل بمنعه، وهو قولُ المالكية والحنابلة والظاهرية.
رابعا: التّوسّع في الامْتِشاط
كما في رواية حديث أمّ عطيّة الأنصارية: «… ولا تَلْبسْ ثوباً مَصْبُوغاً، ولا ثوبَ عَصْب، ولا تَكْتَحل، ولا تَمْتَشط، ولا تمسّ طيباً...». رواه النسائي (6/203) وغيره وهو صحيح.
فقوله: «ولا تَمْتَشط» لعلّ الممنوع منه المبالغة والإكثار، وما كان بدهنٍ فيه طيب، فإنه يُنَافي الحداد، فقد قال أبو محمد ابن حزم: «وتَجْتنب الامتشاط، حاش التَّسْريح بالمِشط فقط، فهو حلالٌ لها». «المحلى» (10/276).
وفي القاموس: التسريح حلّ الشّعر وإرْساله.
خامسا: تَجتنبُ أنْ تَخْتضبَ بالحنّاء
ومثله: أنْ تُحَمّر وجْهها، أو تُبيِّضَه، أو تصفّره، ومثْله أنْ تَحفَّ وجْهها، وأنْ تَنْقشَ وجْهها ويديها، وما أشْبه ذلك ممّا يُحَسّنها، ويُرغّب في النّظر إليها.
مَمْنُوعات لا أصْلَ لها: أمَّا ما يشتهر بين كثيرٍ مِنَ الناس مِنَ المَمْنوعات في أثناء فترة الحِداد مثل: أنّها لا تَنْظر في المِرْآة، وأنّها لا تَسْمع صوتَ الرّجال، ولا تَراهم بعينها، ولا تُخاطبهم ولو احتاجت، ولا تردّ على الهاتف.
وأنّها لا تَنْظر إلى القَمر! وأنّها إذا أرادت الخُروج من العدة، تذهب للبَحر!
فكله ممَّا لا أصلَ له في الشّرع، بل هو داخلٌ في المُحْدثات والبِدَع.
من فوائد الحديث
1- تحريمُ الإحْداد على ميتٍ أكثرَ مِنْ ثلاثة أيّام، إلا المرأة على زوجها أربعة أشهرٍ وعَشْرا.
2- إباحة الإحْداد على ميتٍ قريب ثلاث ليالٍ على غير الزّوج، تخفيفاً للمُصيبة، وترويحاً للنّفس بإبدائها شيئاً من التأثر على الحبيب المفارق.
3- وجُوب إحْداد المَرْأة على زوجها المُتوفّى، أربعة أشْهرٍ وعشرًا، وعموم الحديث يُفيد وجُوبه على كلّ زوجة، مسْلمة كانت أو ذميّة، كبيرة أو صغيرة، فقوله: «تؤمن بالله واليوم الآخر» سيق للزّجْر والتّهديد، والحِكْمة في تحديد المُدّة بأربعة أشهر وعشر كما سبق: الحزن على فراق الزوج، واحترام العِشْرة الزوجية، وأنّها المُدّة التي يتكامل فيها تخلّق الجنين، وتنفخ فيه الرُّوح إنْ كانت حاملا، وإلا فقد بَرئ رحمها براءة واضحة، لا ريبة فيها.
4- والإحْداد الشّرعي: هو اجْتنابها كلّ ما يَدْعو إلى جِماعها، ويُرغّب في النَّظر إليها، مِنَ الزينة والطّيب وغيره، مع منْعها مِنَ التزويج.
5- لا حِداد على امْرأة المَفقود، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «على ميّت».
لاتوجد تعليقات