شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب الوليمة في النكاح (2)
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في الحلقة الماضية في باب الوليمة في النكاح؛ حيث توقفنا عند قوله: «وجَاءَ رسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، ودَخَلَ وأَنَا جَالِسٌ فِي الحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ولَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، والآية المذكورة: قال فيها القرطبي في تفسيره: فيها ست عشرة مسألة نذكرها في هذا المقال.
المسألة الأولى
قوله -تعالى-: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} {أن} في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء ليس من الأول، {طعام غيرَ ناظرين} نصب على الحال، أي: لا تدخلوا في هذه الحال، وهذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس، والثانية: أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثُّقلاء.
فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن: سببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، الحديث، وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين، كانوا يتحينون طعام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون قبل أنْ يُدرك الطعام، فيَقْعدون إلى أنْ يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون.
وأما قصة الحجاب: فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمرُ القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا، وقالت عائشة -رضي الله عنها- وجماعة: سببها أن عمر قال قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت الآية، وروى الصحيح: عن ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر، هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق.
المسألة الثانية
قوله -تعالى-: {بيوت النبي} دليل على أنَّ البيت للرجل، ويحْكم له به، فإن الله -تعالى- أضافه إليه، فإن قيل: فقد قال الله -تعالى-: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} الأحزاب، قلنا: إضافة البيوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إضافة ملك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والإذن إنما يكون للمالك.
المسألة الثالثة
اختلف العلماء في بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذْ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهن أم لا؟ على قولين:
- الأول: قالت طائفة: كانت ملكًا لهن، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وفاتهن، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهب ذلك لهن في حياته.
- الثاني: أن ذلك كان إسْكانًا، كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهن بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي وغيرهم، فإن ذلك من مئونتهن التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومئونة عاملي فهو صدقة، هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، قالوا: ولو كان ذلك ملكًا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا، وإنما كان لهن سكن حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مضين لسبيلهن، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه.
المسألة الرابعة
قوله -تعالى-: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} فأكد المنع، وخصَّ وقت الدخول بأنْ يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة، قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول؛ فادخلوا، وإلا فالدعوة نفسها لا تكون إذنًا كافيًا في الدخول، والفاء في جواب إذا لازمة؛ لما فيها من معنى المجازاة.
المسألة الخامسة
قوله -تعالى-: {فادخلوا فإذا طعمتم} أمَرَ -تعالى- بعد الإطْعام بأنْ يتفرَّق جميعهم وينتشروا، والمراد: إلزام الخروج مِنَ المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل، والدليل على ذلك: أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل، زال السبب المبيح، وعاد التحريم إلى أصله.
المسألة السادسة
في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الضيف يأكل على ملك المُضيف لا على ملك نفسه؛ لأنَّه قال: {فإذا طعمتم فانتشروا} فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
المسألة السابعة
قوله -تعالى-: {ولا مستأنسين لحديث} عَطْفٌ على قوله: {غير ناظرين} و{غير} منصوبة على الحال من الكاف والميم في {لكم} أي: غير ناظرين ولا مستأنسين، والمعنى المقصود: لا تَمْكثوا مُستأنسين بالحديث، كما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وليمة زينب. {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق} أي: لا يمتنع من بيانه وإظهاره، ولمَّا كان ذلك يقع مِنَ البشر لعلة الاستحياء؛ نفي عن الله -تعالى- العلة الموجبة لذلك في البشر، وفي الصحيح: عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ الله لا يَسْتحيي مِنَ الحقِّ، فهل على المرأة من غُسْلٍ إذا احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رَأت الماء».
المسألة الثامنة
قوله -تعالى-: {وإذا سألتموهن متاعا} روى أبو داود الطيالسي: عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع، الحديث، وفيه: قلتُ: يا رسول الله، لو ضَرَبْتَ على نسائك الحِجَاب، فإنَّه يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، فأنزلَ الله عز وجل {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب}، واختلف في المتاع، فقيل: ما يُتَمتّع به مِنَ العَواري. وقيل: فتوى. وقيل: صُحُف القرآن. والصواب: أنَّه عامٌ في جميع ما يمكن أنْ يُطْلب مِنَ المَواعين، وسائر المرافق للدين والدنيا.
المسألة التاسعة
في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الله -تعالى- أذِنَ في مسألتهن مِنْ وراء حِجَاب في حاجة تعرض، أو مسألة يُسْتفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمَّنته أصولُ الشريعة مِنْ أنَّ المرأة كلّها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدَّم، فلا يجوزُ كشْف ذلك إلا لحاجةٍ؛ كالشهادة عليها، أو داءٍ يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها.
المسألة العاشرة
استدلَّ بعض العلماء -بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منْ وراء حجاب- على جواز شَهادة الأعْمى، وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيما رآه قبل ذهاب بصره.
المسألة الحادية عشرة
قوله -تعالى-: {ذلكم أطْهر لقلوبِكم وقلوبهن} يريد مِن الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي: ذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحدٍ أنْ يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له؛ فإنَّ مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته.
المسألة الثانية عشرة
{وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} الآية، هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.
المسألة الثالثة عشرة
قوله -تعالى-: {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا} روى إسماعيل بن إسحاق: عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجت عائشة، فأنزل الله -تعالى-: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} الآية، ونزلت: {وأزواجه أمهاتهم}، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات، وهذا من خصائصه تمييزًا لشرفه، وتنبيها على مرتبته - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي -رحمه الله-: وأزواجه - صلى الله عليه وسلم - اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافراً، لقوله -تعالى-: {وما كان لكم أنْ تُؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا}. وقد قيل: إنَّما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. انتهى مختصرا.
لاتوجد تعليقات