قواعد الترجيح عند المفسرين – قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب(2)
القاعدة السادسة: الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية: إذا لم يكن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية لدليل صارفٍ عنها، أو لكونه لا معنى شرعيا له، ثم كان هذا اللفظ دائراً بين الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية، ولا دليل يوجب حمل اللفظ على إحداهما، فالحمل على العرفية أرجح.
ويشترط في العُرف الذي يُقدّم على اللغة شروط هي:
1- أن يكون قائماً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو موجوداً قبله، لأنا نريد أنْ نعرف مراد الله -تعالى- ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما، ولا يمكن معرفة مرادهما بالكلام، إلا من العُرف الذي كان قائماً موجوداً عند ورود الخطاب، فنعلم أنه قصد بإطلاق الكلام ما يقتضيه ذلك العُرف، فأما عُرفٌ حَدَث بعده، فلا يجوز أنْ يتعرف منه مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يكن موجوداً في زمانه.
2- أنْ يكون العرفُ مُطّرداً أو غالبا، فإنْ كان مضطرباً فلا يقدم، ويرجع إلى اللغة.
3- ألا يوجد للفظ محملٌ شرعي، أو وجد دليل صارف عن إرادته، وهذا من اقتضاء تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية والعرفية.
ومعتمد هذه القاعدة أن المعنى العرفي أظهر في الخطاب من المعنى اللغوي؛ لأنه هو المتبادر إلى الفهم، وما وضع الكلام إلا للإفهام، فلذلك يقدم المعنى العرفي.
وقد قرر هذه القاعدة الماوردي والزركشي وغيرهم.
مثاله: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة:60).
. ثم قال {وفي سَبِيلِ اللّهِ} وفي المراد به أقوال:
1- الغزاة في سبيل الله.
2- جميع وجوه الخير والبر.
3- الحجيج.
والقول الأول هو الأولى بالصواب؛ لأنّ إطلاق هذا اللفظ على الغزو والجهاد، هو الشائع في الاستعمال عند نزول القرآن، فكان عُرفا، قال ابن الجوزي: إذا أُطلق ذكر «سبيل الله» فالمراد به الجهاد، وقال ابن دقيق العيد نحوه.
وقد أَدخلت السُّنة النبوية الصحيحة: الحج، في سبيل الله.
القاعدة السابعة: القول بالاستقلال، مقدَّمٌ على القول بالإضمار:
فإذا اختلف المفسرون في تفسير آية، فمنهم من يرى افتقار الكلام إلى التقدير، ومنهم مَنْ يرى استقلال الكلام، وعدم احتياجه إلى ذلك التقدير، والمعنى مستقيم بدونه، فحمل الآية على الاستقلال مقدّم، لأجل موافقة الأصل؛ لأن الإضمار والتقدير خلاف الأصل، فيجب التقليل من مخالفة الأصل.
وهذه القاعدة من القواعد التي اعتمدها المفسرون، وكذا الأصوليون.
مثاله: قال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر: 22).
. ذهب بعضهم إلى تفسيرها بقولهم: جاء أمر ربك؟! أو جاء قضاؤه؟! والصواب عدم التقدير، وليس في ألفاظ الآية ولا سياقها، ولا في دلالة شرعية تدل على إضمار شيء فيها؛ والسبب في هذا التقدير عند بعض المؤولة: هو دعواهم بأنَّ العقل يحيل اتصاف الباري سبحانه بهذه الصفة!
وهذا باطل؛ لما قلناه من أنَّ الأصل عدم التقدير؛ ولأن إقحام العقل في ميدان لا يعلم كنهه خطأٌ واضح، والصفات من الغيب التي أمرنا بالإيمان به، فمبناه على التسليم، وإثبات ما أثبته الله لنفسه دون تشبيه أو تكييف، وبهذا فسر الآية ابن جرير فقال: «وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه، صفوفا صفا بعد صف» وغيره من المفسرين.
قيام الدليل على الإضمار:
أما إذا قام الدليل على الإضمار في الآية، فالقواعد التالية تُرجّح بين الأقوال في تقدير ذلك المضمر:
قاعدة (ا): تقدير ما ظهر في القرآن أولى في بابه من كل تقدير.
فإذا دلَّ دليل معتبر على الحذف في آية، وظهر هذا المحذوف في آية أخرى، فتقدير ذلك المحذوف بما ظهر في موضع آخر، أولى من كل تقدير، وأوفق للصواب، وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن. وقد ذكر هذه القاعدة بلفظها العز بن عبد السلام، واعتمدها عامة المفسرون.
مثاله: قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} (النساء: 171)
في هذه الآية قرينة على الإضمار، وهي رفع: (ثلاثة) بعد القول ولا رافع لها مذكور، فدل على وجود مضمر: فقال الفراء: التقدير «هم ثلاثة».
وقال الزجاج: آلهتنا ثلاثة.
وقال أبوعلي الفارسي: «هو ثالث ثلاثة» وهذا أولى التقديرات لأجل موافقة قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}(المائدة: 73).
قاعدة (ب): التقدير الموافق لغرض الآية، وأدلة الشرع مقدمٌ على غيره.
فإذا قام دليل على وجود إضمار في آية، ولم يظهر ذلك المضمر في آية أخرى، فأولى التقديرات بالصحة: ما كان منها موافقا لغرض الآية المسوقة له، وأدلة الشرع العامة، ولم يكن مخالفا لها.
مثاله: تقدير خبر (لا) المضمر في جملة: «لا إله إلا الله» أو في آية نحو: {لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الرَّحمَنِ الرَّحِيم} البقرة. فقدّره بعضهم بـ: موجود! فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله؟!
وقدّره غيرهم حقاً أو بحق، فيكون المعنى: لا معبود بحق إلا الله، وهذا التقدير هو الصواب، لموافقته للغرض من هذه الجملة، وهو إثبات الوحدانية في الإلهية له وحده سبحانه، ونفيها عمن سواه من الآلهة الباطلة.
قاعدة (ج): قِلة الحذف أولى من كثرته.
فإذا دل الدليل على الإضمار في آية، ولم يظهر ذلك المضمر في آية أخرى، واحتاج المفسر أو المعرب على تقدير ذلك المضمر، فأولى التقديرات ما قلّ فيه التقدير دون ما كثر، ذلك لتقليل مخالفة الأصل بكثرة الحذف والتقدير.
مثاله: قال تعالى: {وأُشربوا في قلوبهم العجل} البقرة: (93).
قال أبو حيان: هو على حذف مضافين، أي: حب عبادة العجل. وقال الجمهور: بل على حذف مضاف واحد، والتقدير: حب العجل، وهذا هو الأولى تقليلاً للمحذوف.
القاعدة الثامنة: القول بالترتيب، مقدم على القول بالتقديم والتأخير:
إذا اختلف المفسرون في تفسير آية من كتاب الله، وكان خلافهم دائراً بين مدّعٍ للتقديم والتأخير في الآية، ومبق لها على ترتيبها، فأولى القولين بالصواب: قول من قال بالترتيب؛ لأنه الأصل في الكلام، ولا ينتقل عن الأصل إلا بدليل واضح، وقرينة بينة، لا سيما إذا استقام المعنى بدونه، فإذا احتمل الأمر وعُدم الدليل والقرينة، فالقول الحق أنْ يبقى الكلام على ترتيبه.
وقد نص على هذه القاعدة الطبري وابن تيمية وغيرهم.
مثاله: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}(المجادلة: 3).
ذهب بعض العلماء إلى أنّ في الآية تقديما وتأخيراً، تقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أنْ يتماسا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، ثم يعودون لما قالوا: إنا لا نفعله فيفعلونه، فعلى هذا القول لا يكون العود شرطاً في وجوب الكفارة.
وذهب الجمهور إلى أن الآية على ترتيبها، وليس فيها تقديم ولا تأخير، على خلافٍ بينهم في تفسير العود، وهذا القول هو ما تقرره هذه القاعدة؛ لأن الأصل وظاهر النظم هو الترتيب، ولا يوجد في الكلام دليل صريح أو قرينة واضحة، تدل على صحة دعوى التقديم والتأخير.
القاعدة التاسعة: لا تُحمل الآية على القَلْب ولها بدونه وجهٌ صحيح:
إذا اختلف المفسرون بين حمل الآية على القلب - وسيأتي بيانه - أو عدمه فحمل الآية على عدم القلب هو الصحيح، متى أمكن ذلك؛ لأنه هو الموافق لظاهر الآية، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل.
وقد عرّف البلاغيون القلب بأنه: جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه، على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر.
والقلب أنواع، منها: قلب الإسناد، كقلب الفاعل مفعولاً، والمفعول فاعلا، نحوقوله تعالى: {ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}(الأحقاف: 20).
وقلب العطف بأنْ يُجعل المعطوف عليه معطوفاً، والمعطوف معطوفا عليه، وجعلوا منه قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} النجم.
وقد اختلف العلماء في كونه القلب من أساليب البلاغة، ومِنْ ثَمَّ في جواز حمل القرآن عليه، فأنكره بعضُهم مطلقاً، وجعله من الضروريات التي يسلكها الشعراء لمراعاة القافية والوزن، والقرآن منزهٌ عنه. وقَبِله آخرون مطلقا! واشترط له آخرون عدم اللبس، وفصَّل بعضُهم فقال: إنْ تضمَّن اعتباراً لطيفا قُبل، وإلا رُد. وقد قرر هذه القاعدة وعمل بمضمونها: ابن عطية والرازي والقرطبي وغيرهم.
مثاله: قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} الأنبياء. ذهب الزجاج وغيره إلى أن في الآية قلبا، والمعنى: خُلق العجل من الإنسان، والعرب تفعل هذا، إذا كان الشيء مِن سبب الشيء، بدؤوا بالسبب. وذهب عامة المفسرين إلى أن الآية على ترتيبها، فقال بعضهم: خُلق الإنسان عجولا.
وقال آخرون: خلق الإنسان في عجل، في خلق الله إياه. وقيل غير ذلك.
والقول بالترتيب هو الصحيح؛ إذْ لا مُوجب للقول بالقلب، ولا دليل عليه، مع مخالفته لظاهر الآية.
القاعدة العاشرة: التَّأسيس أولى من التأكيد: والتأسيس لغة: من الأساس، وهو أصل البناء.
وفي الاصطلاح: إفادة معنى آخر لم يكن حاصلاً قبلاً. والتأكيد هو: تقوية مدلول ما ذُكر بلفظ آخر، وهو إما معنوي: كقولك: جاء القوم كلُّهم أجمعون. أم لفظي: وهو إعادة اللفظ الأول بعينه.
وهو المراد في هذه القاعدة، فإذا احتمل اللفظ أو الجملة من كتاب الله تعالى، أنْ يكون مؤكداً للفظ سابق أو جملة، أو يكون مفيداً لمعنى جديد لم يسبق في الكلام، فحمله على الإفادة أولى من حمله على الإعادة؛ لأن إفادة معنى جديد أولى من إلغاء هذا المعنى، بجعله مؤكدا لما تقرر في كلامٍ سابق، فالتأكيد خلاف الأصل؛ لأنَّ الأصل في وضع الكلام إنما هو إفهام السامع ما ليس عنده، فإنْ تعذَّر حمله على فائدة جديدة، حُمل حينئذ على التأكيد.
ويدخل تحت التأكيد المراد هنا: تأكيد معنى سابق، ولو لم يكنْ في ذلك تكرار لأي لفظ من ألفاظ الجملة السابقة. وقد ذكر هذه القاعدة ورجح بها: الطبري وابن العربي وابن القيم وغيرهم.
مثاله: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(النور: 41).اختلف العلماء في عائد الضمير المحذوف، الذي هو فاعل (عَلِم):
- فقال بعضهم: إنه راجعٌ إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وعلى هذا يكون المعنى: كل من المصلين والمسبِّحين، قد علم اللهُ صلاته وتسبيحه.
- وقال آخرون: بل هو راجع إلى قوله (كل) فعلى هذا يكون المعنى: كل من المصلين والمسبحين، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه.
والثاني هو الصحيح، كي يكون قوله تعالى: {والله عليم بما يفعلون} تأسيساً لمعنى جديد، وهو إحاطة علم الله -تعالى- بكل ما يفعلون، أما على القول الأول، فإن هذه الجملة - {والله عليم بما يفعلون}- مؤكدة لمعنى جملة {قد علم صلاته وتسبيح} والتأسيس أولى من التأكيد.
لاتوجد تعليقات