شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (4) باب: فضل سورة الكهف
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2099. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ».
وفي رواية: « مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ «.
الشرح: الباب الخامس باب: فضل سورة الكهف وهي سورة مكية، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في الكتاب السابق وهو كتاب صلاة المسافرين (809) وبوب عليه النووي ( 6/92): باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
- قال عن أبي الدرداء وهو الصحابي المشهور واسمه عويمر بن زيد ابن قيس الأنصاري، مشهور بكنيته، أول مشاهده أحد، وكان عابدا، مات في أواخر خلافة عثمان، وقيل عاش بعدها.
- قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» حفظ، أي: عن ظهر قلب.
واختلف العلماء في السبب الذي من أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها ما قال؟
- فقال الإمام النووي: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى: {أفحسبَ الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء....} انتهى. يعني: من هذه الآية إلى قوله: {فمن كانَ يرجو لقاء ربّه فليعملْ عمل صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربّه أحدا} الكهف: (102 - 110).
فهذه السورة المباركة كما قال أهل العلم: ذكر الله سبحانه وتعالى فيها أربع فتن، أولها: فتنة الدّين، ثم فتنة المال، ثم فتنة العلم، ثم فتنة الملك والجاه والسلطان. أما فتنة الدين: فهي ما تعرض له أصحاب الكهف من فتنة في دينهم، قال سبحانه: {إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزدْناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا ربّ السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذاً شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين...} (الكهف: 9)، وما بعدها.
فقد تعرضوا لفتنة عظيمة في دينهم، مع صغر سنّهم، وقلة الناصر لهم والمعين، والله سبحانه وتعالى بدأ بذكر فتنة الدين؛ لأنها أعظم الفتن، ولأن الدين هو أغلى ما يملك الإنسان، ويجب أن يحافظ عليه، أكثر مما يحافظ على ماله وولده وجاهه وسلطانه وكل شيء، ولذلك بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر فتنة أصحاب الكهف، وكيف أن الله سبحانه وتعالى حفظ دينهم وتوحيدهم وإيمانهم، وعصمهم باللجوء إلى الكهف بعيدا عن فتنة قومهم، وخوفا من إجبارهم على الشرك بالله ومتابعتهم على دينهم، وانضم بعضهم إلى بعض، فإن الصحبة الصالحة مما يعين على التقوى والصلاح، فالله سبحانه وتعالى جعل الصحبة الصالحة سببا للنجاة من الفتن في الدنيا.
ثم ذكر الله تعالى الفتنة الثانية: وهي فتنة المال، في قصة الرجل الذي آتاه الله سبحانه وتعالى جنتين، وفيهما من النخيل والأعناب، والزروع والثمار والأنهار، شيء كثير، كما قال الله تعالى: {واضربْ لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعنابٍ وحففناهما بنخلٍ وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتتْ أُكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمرٌ فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ودخلَ جنّته وهو ظالمٌ لنفسه قالَ ما أظنُّ أنْ تَبيد هذه أبداً وما أظنُّ الساعةَ قائمة..} (الكهف: 32-36).
فافتخر على صاحبه بالمال العريض، وكثرة الأنصار من أقارب وخدم وعبيد، وقال: {أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفراً} (الكهف: 34) حتى ابتلاه الله تبارك وتعالى بذهاب الجنتين، فأزال عنه هذه النعمة لكفره لما قال {ما أظنُّ أن تبيدَ هذه أبدا وما أظنّ الساعة قائمة} (الكهف: 35- 36).
فبدلا من شكره لنعم الله تعالى عليه، كفر بها وكفر بالله، وأنكر الساعة والبعث، وظن أنه مخلد فيما هو فيه من زروع وثمار ونخيل، واغتر بها، وأعجب بالحياة الدنيا وزينتها.
ولا شك أن فتنة الدنيا هي من أعظم الفتن اليوم، بل هي الصنم الذي يعبده كثير من الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: « تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله... » رواه البخاري.
ووقع في ذلك كثير من المسلمين اليوم وللأسف الشديد!
وهو ما خافه نبينا عليه الصلاة والسلام على أمته، إذ يقول: «إنّ مما أخافه عليكم بعدي، ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها» متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: « إنّ الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، وإنّ الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدُّنيا واتقوا النساء » رواه مسلم.
وفتنة الدنيا فتنة للجميع، للرجال والنساء، والشاب والشيخ، والصغير والكبير، بخلاف فتنة النساء مثلا فهي للرجال فقط؟! نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.
- وأما الفتنة الثالثة: فهي فتنة العلم، وذلك في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه خطب خطبة بليغة، كما روى البخاري في صحيحه: فجاءه رجل من بني إسرائيل فقال له: هل تعلم أحدا أعلم في الأرض منك؟ قال: لا! وموسى عليه الصلاة والسلام قال ذلك لأنه نبي الله لبني إسرائيل، وهي الأمة المسلمة الوحيدة على وجه الأرض إذ ذاك، فعتب الله تعالى عليه ذلك إذ لم يرد العلم إليه، أي لماذا لم يقل: الله أعلم؟! فأراد الله أن يبين له أن هناك من عباد الله من هو أعلم منه؟ على الأقل في بعض الأمور وليس في كلها، فأنت قد تكون عالما مبرزا في علم من العلوم، ولكن هناك من يفوقك في علم آخر، فأمره بالبحث عن رجل صالح وهو نبي الله الخضر عليه السلام، وأنه أعلم منه في أمور علمها الله إياها، وأن يسير في الأرض حتى يجده، ويلازمه ويتعلم منه، فوجده وقال له في تواضع جم: {هل أتبعك على أن تُعلمن مما عُلمتَ رُشدا} (الكهف: 66). ولما قال له: {إنك لنْ تستطيع معي صبراً} قال موسى عليه السلام له: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا} (الكهف: 69).
فأطلع على عجب من الأمور الغيبية التي لا يعلمها، من قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار.
- وأما الفتنة الرابعة: فهي فتنة الملك والتمكين والجاه العريض والرئاسة، الملك الواسع الذي أوتيه الملك الصالح ذو القرنين، فقد آتاه الله سبحانه وتعالى من كل شيء سبباً، يعني آتاه الله عز وجل كل ما يحتاج إليه في الملك والتمكين، من الجيوش والجند والآلات والسلاح ووسائل فتح البلاد والأقاليم، وقد جال في الأرض وسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ومكنه الله تعالى من هؤلاء وهؤلاء، وحكمه فيهم، فأمره بالعدل والإنصاف، بأن يحسن إلى المؤمن الصالح، ويبشره بما له عند الله في الآخرة، وأن يعاقب الكافر المسيء، ويخوفه مما ينتظره في الدار الآخرة من العذاب، فقال مستجيبا لأمر الله تعالى ولم يظلم أو يغتر بقوته ويتعدى حدود الله، قال: {أما مَنْ ظَلم فسوفَ نُعذّبه ثم يُرد إلى ربّه فيعذّبه عذاباً نُكرا وأما من آمنَ وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى وسنقولُ له من أمرنا يُسرا} (الكهف: 87 - 88).
ولا شك أن فتنة السلطان والقوة فتنة عظيمة، هلك بها أقوام كثر، فكم من الناس عندما يكون عنده ملك وقوة، وجند وسلاح، يأخذه الغرور والاستكبار على الناس، فيظلم ويتعدى على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، كما نسمع ونشاهد ذلك من كثير من الطغاة قديما وحديثا، كيف أخذهم الغرور والاستبداد والاستكبار حتى ظلموا من ظلموا، وتسلطوا على من تسلطوا، فكان عاقبة أمرهم خسرا؟!
لكن هذا الملك الصالح قام بما أمره الله عز وجل، فمن ظلم وكفر بالله أدبه بما يليق به، وأما من آمن بالله، واستقام على دين الله، فقال له الحسنى.
كما أنه بما آتاه الله من قوة وتمكين، قام بحماية الناس من فساد قبيلتي يأجوج ومأجوج، وذلك عندما بنى السدّ العظيم بين الجبلين، أعظم بناء وأمنعه، وبه منعهم من الخروج على الناس لإفساد الحرث والنسل، وهو الذي ذكره الله تعالى في أواخر هذه السورة الكريمة. فهذه أربع فتن عظيمة، ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة الكهف.
وأما كون من حفظ «سورة الكهف» فإنه يعصم من فتنة الدجال، فلأن الدجال إذا جاء يفتن الناس في دينهم، يقول لهم متبجحا: أنا ربكم؟؟! فهذه فتنة الدين، كما أن الدجال إذا جاء يفتن الناس في دنياهم، يمر بالقوم يدعوهم إلى نفسه فيكفرون به، فيصبحون ممحلين ليس عندهم شيء، أي: يصيبهم قحط وحاجة وفقر، ويأتي إلى آخرين فيدعوهم إلى نفسه فيؤمنون به، فتخصب أراضيهم وتشبع مواشيهم حتى تمتلئ ضروعها باللبن، فهذه فتنة، ويقول للأرض: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها وتتبعه كأنها يعاسيب النحل، فهذا كله من الفتن التي تكون مع الدجال، فضلاً عن فتنة الملك واغتراره بقوته وجيشه الذي يبلغ به مشارق الأرض ومغاربها.
فمن قرأ سورة الكهف قراءة تدبر وتأمل، ووقف على معاني هذه الفتن العظيمة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، فإنه يعصم من الدجال كما قال أهل العلم ما فيها من العجائب والآيات من تدبرها لم يفتن بالدجال.
- أما رواية: «من آخر الكهف» فهذه رواية ذكر أهل العلم أن فيها شذوذا، وأن الصحيح هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من حفظ أول عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».
وأما من أراد أن يحصل له التمام والكمال فعليه بقراءة سورة الكهف كلها يوم الجمعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» رواه الحاكم والبيهقي.
- وفي رواية: «أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» رواه سعيد ابن منصور في سننه والبيهقي.
فهذه القراءة والفضل والأجر يكون يوم الجمعة فقط، واليوم يبتدئ من بعد الفجر وينتهي بغروب الشمس، وسمعت بعض الإخوة من طلبة العلم يقول: إن سورة الكهف لو قرأها في أي يوم من الأسبوع يحصل له الأجر!!
وهذا القول مخالف لظاهر الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة» فقط، وحتى ليلة الجمعة فيها خلاف؛ لأن رواية: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة» فهذه الزيادة وردت موقوفة على بعض الصحابة، ولم تثبت مرفوعة! وفي ثبوتها نظر.
فبقي هذا الفضل ليوم الجمعة بنص الحديث.
هذا والله تعالى أعلم, وصلى الله وبارك وسلم على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
لاتوجد تعليقات