شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (53 ) أدب الجــدال (2)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الثامن عشر:
18- باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).
الحديث الثاني:
قال البخاري رحمه الله:
7348 - حدثنا قتيبة: حدثنا الليثُ، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد، خرج رسول الله [ فقال: «انطلقوا إلى يهود» فانطلقنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي [ فناداهم فقال: «يا معشرَ يهود، أسلموا تَسلموا». فقالوا: قد بلّغت يا أبا القاسم، قال: فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد، أسلموا تسلموا». فقالوا: قد بلغتَ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد» ثم قالها الثالثة، فقال: «اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليَبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله» (طرفه في: 3167).
الشرح:
الحديث الثاني: يرويه البخاري عن شيخه قتيبة، وهو ابن سعيد كما مر معنا، قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي عالم مصر ومفتيها في وقته، قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه واسمه كيسان المدني، تابعي ثقة ثبت، ومن المكثرين عن أبي هريرة ].
قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج رسول الله [ فقال: انطلقوا إلى يهود، ولم يُعرّفْ النبي [ هذا الاسم، أي: لم يذكرهم بالألف واللام، إما لكونه قصد بعض اليهود، أو أنه [ لم يرد أن يعظم هذا الاسم، فقال: انطلقوا إلى يهود بغير ألف ولام.
قال أبو هريرة: فخرجنا معه حتى أتينا بيت المدراس، وبيت المدراس: هو البيت الذي يتدارسون فيه التوراة.
قوله: «فقام النبي [ فناداهم «يظهر من هذا أنه ناداهم من خارج البيت فقال: «يا معشر يهود، أسلموا تسلموا» أسلموا أي: ادخلوا في دين الإسلام، واشهدوا أني رسول الله تسلموا في الدنيا والآخرة، ففيه فضل الإسلام، والشهادة لرسول الله [ أنه رسول الله حقا وصدقا، وأن ذلك سبب للسلامة من الآفات ومن العذاب والفتنة والشر والبلاء في الدنيا والآخرة، ففيه فضل الاعتصام بالرسول [ وقوله وهديه، وأنهم إذا أسلموا سلموا من الشرور والعقوبات في الدنيا والآخرة.
وهكذا كل من انقاد لرسول الله [، ولم يخالف أمره فإنه يسلم من الشرور والعقوبات، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور 63). فحذر الله عز وجل من مخالفة أمر الرسول [، وأخبر أن من يخالف أمره أنه يعاقب بعقوبة عاجلة أو آجلة، بفتنة في دينه وشرك، أو شر وعذاب.
قوله: «قالوا: بلغت يا أبا القاسم» ولم يقولوا يا رسول الله ؟! بل خاطبوه بكنيته [، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد» يعني: أنا أريد البلاغ وإيصال الحجة، وإقامة الحجة عليكم.
قوله: «أسلموا تسلموا» أعاد عليهم [ عرض الإسلام والدعوة إليه، قالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد»، قالها الثالثة، يعني: كرر عليهم [ الدعوة والبلاغ ثلاث مرات، وهذا من التأكيد عليهم، وقد قال الله تعالى له: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67).
فهو مأمور [ بالبلاغ وأداء الرسالة التي كلفه الله بها، وجاء إلى اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به.
فقالوا له: بلغت ! لكن لم يذعنوا له بالطاعة والاتباع، فأعاد عليهم وبالغ، وهذا التكرير من المجادلة بالتي هي أحسن؛ لأنه [ لم يعنفهم، ولم يغلظ عليهم، ولم يسبهم أو يلعنهم مع أنهم مستحقين لذلك، وإنما دعاهم بالحسنى، كما قال تعالى {وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن} (النحل: 125).
وهذا موافق لقول الله تبارك وتعالى هاهنا: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).
فجادلهم [ كما أمره الله تبارك وتعالى في كتابه.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ....} (التوبة: 5).
وقيل: إن مجادلة أهل الكتاب هي فيمن له عهد وأمان، وفيمن يؤدي الجزية، وأما أهل الحرب، فإنه يشرع قتالهم بالسيف لدفع شرهم؛ لأنه [ أمر أن يقاتل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن لا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال الله له: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29).
فالنبي [ أمر بمقاتلة الكفار جميعا، وهم كل من لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام، فيدخل فيهم الأميون الذين لا كتاب لهم ولم يكن لهم نبي سابق، ويدخل فيهم أيضا أهل الكتاب الذين لا يؤمنون برسالة محمد [ من اليهود والنصارى.
ثم إن النبي [ أعلمهم أنه يريد أن يجليهم عن المدينة، وبعد ذلك يجليهم عن جزيرة العرب كلها، كما أمر وأوصى [ أصحابه فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه مسلم من حديث عمر ].
وقال عن المشركين أيضا: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب..» رواه الشيخان.
وقال [: «لئن عشت - إن شاء الله - لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه الترمذي.
ثم قال لهم: «اعلموا أن الأرض لله ورسوله» أي: هذه الأرض التي أنتم فيها هي لله ورسوله؛ لأنها مهبط الوحي على محمد [، وفيها مشاهد الإسلام، وعلامات النبوة، وبيت الرسالة، و«إني أريد أن أجليكم»، الجلاء بمعنى الخروج عن هذه الأرض، «فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله». ثم إن النبي [ أجلاهم بعد ذلك إلى خيبر.
فهذه وصايا نبوية شريفة نافعة للمسلمين لو أخذوا بها، لكن انظروا اليوم إلى واقع المسلمين والمسلمات، حيث ضعف التمسك والاعتصام بالسنن، وصاروا يتساهلون في إحضار اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب، بل الوثنين من البوذيين والمجوس عبدة النار وعبدة الأبقار، من غير ضرورة، فترى مئات الألوف من العمال والخدم الكفار، فضلا عن أهل الكتاب، يملؤون جزيرة العرب، وهي مخالفة صريحة للنبي الله [، ولا شك أن ما يصيبنا اليوم من بلاء وتقهقر ورجوع وذلة، إنما هو بسبب مخالفتنا للاعتصام بسنة رسول الله [ وبهديه وبقوله وعمله.
وجزيرة العرب محدودة بالبحار: ببحر عمان أو ما يسمى بالخليج العربي، وبحر عدن، والبحر الأحمر، هذه جزيرة العرب على الصحيح؛ لأنها مهبط الوحي ومنها شعت أنوار النبوة، وهي مهد الرسالة فلا يجوز التساهل بإدخالهم إليها.
فحاصل هذا الباب الوصية بالمجادلة بالتي هي أحسن للناس جميعا، إلا الذين ظلموا منهم، يعني من ظلم أهل الإسلام، فحاربهم وامتنع عن بذل الجزية، فإنه يقاتل وينتقل معه من المجادلة بالتي هي أحسن إلى المقاتلة؛ لأنه ظلم نفسه أولا، وظلم أهل الإسلام فحاربهم، وأبى الدخول في الإسلام، وأبى أن يدفع لهم الجزية، فعند ذلك إذا عاند انتقلنا معه من المجادلة إلى المجالدة، من المجادلة بالبيان والحجة بطريق الإنصاف، إلى طريق المقاتلة بالغلظة والقوة، وهي مجالدة بالسيف.
لاتوجد تعليقات