شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (52 ) أدب الجــدال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الثامن عشر :
18- باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).
الحديث الأول :
قال البخاري رحمه الله:
7347 – حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري (ح) حدثني محمد بن سلام: أخبرنا عتاب بن بشير عن إسحاقَ عن الزهري : أخبرني علي بن حسين: أن حسين ابن علي -رضي الله عنهما- أخبره: أن علي بن أبي طالب قال: إن رسول الله[ طرقه وفاطمة عليهما السلام بنت رسول الله[، فقال لهم: «ألا تصلون؟!» فقال علي: فقلت: يا رسول الله إنما أنفُسنا بيد الله، فإذا شاء أن يَبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله[ حين قال له ذلك، ولم يَرجع إليه شيئا، ثم سمعه وهو مدبرٌ ، يضرب فخذه ، وهو يقول: «وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا».
قال أبو عبدالله: ما أتاك ليلا فهو طارق، ويقال: الطارق النجم، الثاقب: المضيء، يقال: أثقب نارك للموقد. (طرفه في: 1127).
الشرح :
الباب الثامن عشر قال البخاري رحمه الله باب قوله تعالى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).
ترجم البخاري رحمه الله لهذا الباب بآيتين كريمتين، الآية الأولى من سورة الكهف: {َكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54)، أي: كان الإنسان أكثر الخلق مجادلة، فالإنسان مجبول على هذا الخلق وهو الجدال، والدفاع عن النفس، فهو من حيث الطبع مجبول على الذب عن نفسه بالقول والعمل، ولكن ينبغي له أن يجاهد نفسه على قبول النصيحة من غيره، وألا يدافع ويجادل إلا بالاعتدال، بغير إفراط ولا تفريط.
وأما أهل الكفر والعناد فهو دافعهم للجدال بغير حق، ولو كانت الحجة لا قصور فيها ولا خفاء، ولذا يأتيهم العذاب.
وأما قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، فهو إرشاد من الله سبحانه وتعالى إلى مخاطبة أهل الكتاب، وجدالهم بالتي هي أحسن، وسيأتي.
ونعلم من الآية أن الجدال أقسام: والجدال هو المفاوضة والمنازعة والنقاش.
فالجدال والخصام أقسام منه: حسن، وأحسن، وقبيح، فما هو أحسن هو الذي طلبه الله تبارك وتعالى من عباده، فقال: {َلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، يعني: التمسوا أحسن الطرق في مجادلة أهل الكتاب، فيؤخذ منه القيام بدعوة أهل الكتاب، لكن على الوجه الذي هو أحسن، والحسن ما كان دون الأحسن، وأما القبيح، فهو ما كان مؤديا إلى الخصام أو مؤديا إلى الحرام كالسباب والحقد والضغينة والقطيعة، أو كان مجادلة في حق بعد ما تبين، أو ما كان محتويا على الكذب أو التدليس، فالجدال مراتب من حيث أنه أحسن، وحسن، وقبيح.
وأيضا الجدال منه ما هو واجب على الإنسان، مثل نصر الحق إذا لم ينصره أحد ولم يدفع عنه، فإنه يتعين على من عنده علم وقدرة ذلك.
ومنه ما هو مستحب، مثل إذا كان هناك من يغني عنك بجداله بالحق، ويرد عن الإسلام والمسلمين، وعم عقيدتهم ودينهم، فإن هذا لا يكون واجبا في هذه الحالة، وإنما يكون مستحبا.
ومنه ما هو مباح، فما كان في المباح، فهو مباح.
ثم أورد البخاري رحمه حديثين في الباب:
الحديث الأول : حديث علي رضي الله عنه، يرويه من طريق شيخه أبي اليمان واسمه: الحكم بن نافع البهراني قال: أخبرنا شعيب، وهو ابن أبي حمزة الأموي، ثقة عابد من أثبت الناس في الزهري، كان من خاصة أصحاب الزهري.
( ح ) وهذا إسناد آخر لهذا الحديث، وهو من طريق شيخه محمد بن سلام، قال: أخبرنا عتاب بن بشير عن إسحاق عن الزهري، قال: أخبرني علي بن حسين، وهو الهاشمي الذي يقال له زين العابدين ، ثقة ثبت عابد مشهور، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه .
أن حسين بن علي- رضي الله عنهما- أخبره أن علي رضي الله عنه قال: أن رسول الله[ طلبه وفاطمة فقال لهما: «ألا تصلون»، وفي رواية شعيب «ألا تصليان» بالتثنية، وهذا جائز أن يقال للاثنين أو أن يُخاطب الاثنان فما فوقهما بخطاب الجماعة، ذلك لأن أقل الجمع اثنان، أو للتعظيم، أن يقال ذلك للتعظيم لا بأس.
ومعنى طرق : قال أبو عبدالله - والمقصود به البخاري - فإذا قال : قال أبو عبد الله فهو يعني نفسه ، وهذا من المواضع التي يعلق فيها الإمام البخاري على الأحاديث ومعناها، فالبخاري يقول: ما آتاك ليلا فهو طارق، وشرح البخاري قول الله تبارك وتعالى: {والسماء والطارق} قال: الطارق هنا بمعنى النجم، الطارق هو: النجم الثاقب، أي: المضيء، يقال: أثقب نارك للموقد، يقال للذي يوقد النار أثقب نارك يعني: أضيء نارك، فالنجم الثاقب هو النجم المضيء، وقال بعض أهل التفسير يقال: له طارق، لأن ضوءه يطرق، يعني أنه يضيء ثم يخفت، يضيء ثم يخفت بالنسبة للناظر.
نعود فنقول: إن النبي[ جاء ليلا إلى بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما، وقال لهما: «ألا تصليان» فالنبي[ حثهما على الصلاة، وحثهما على الطاعة والقربة، وهذا من أمره[ لابنته ولزوج ابنته، وهو صهره، ولغة يقال صهره، ولا نسيبه! وحثه على الصلاة، وقيام الليل، فهذا من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر للأقارب، فالرسول[ كان يتفقد أهله يتفقد ابنته وزوجها، وقد أمره ربه سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم 6) .
فالواجب على الأب وعلى الأم أن يتفقدوا الأبناء والبنات، وأن يأمروهم بالصلاة، لأنها من أعظم واجبات الدين، ولا مانع أن يدخل عليهم في محل نومهم لتفقد الأحوال، فهذا فعله[، ولا يدخل في التجسس المنهي عنه، إذا كان بطرق الباب والدخول، مالم يخش الإنسان أو يرتاب ، فله أن ينظر ولو بخفية.
فوله: فقال لهم: «ألا تصلون»؟ فقال علي: فقلت يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا.
علي رضي الله عنه اعتذر بالقدر! فقال: إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء الله تعالى أن يبعثنا للقيام، ويمكنا منه فعل، ولما احتج بالقدر تعجب النبي[ من قوله، وضرب فخذه تعجبا من جوابه.
ويحتمل أن يكون تعجب النبي[ من سرعة جواب علي رضي الله عنه وفهمه وعقله، واستحضاره الجواب، فيكون تسليما لما قاله علي رضي الله عنه.
وقال بعض الشراح: إن جواب علي يحتمل أن يكون من الاعتذار بالتي هي أحسن، والمجادلة بالتي هي أحسن، لأنه يحتمل أن يكون لهما عذرا يمنعهما من الصلاة فاستحيا علي من ذكره ، وأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدر.
ويستفاد من الحديث أيضا: جواز ضرب الإنسان بعض بدنه أو بعض أعضائه تعجبا، وكذا أسفا.
والحديث أيضا: يدل على فضيلة ظاهرة لعلي رضي الله عنه، إذ أن عليا -رضي الله عنه - روى هذا الحديث مع ما في الحديث قد يدل على معاتبة النبي[ له، لكن هذا من تواضعه ، من تواضع علي ومن أمانته في تبليغ ونقل كلام النبي[ للأمة، فروى هذا الحديث ولم يلتفت إلى وجود العتاب فيه في حقه.
لاتوجد تعليقات