التوحيد وبنـاء الأمـة (2)
لا يخفى على عاقل ما آل إليه حال أمتنا من الذل ومن الضعف ومن الفقر؛ فقد ذلت بعد عز، وضعفت بعد قوة، وافتقرت بعد غنى، وصارت مستباحة الجانب مهضومة الجناح، وتسلط عليها من لايدفع عن نفسه، وتكالب عليها أعداؤها من كل حدب وصوب؛ لكن عباد الله؛ إذا أردنا أن تعود الأمة إلى عزها ومجدها كسالف عهدها فلا صلاح لها ولا فلاح إلا بما صلح به أولها؛ فقد صلح أولها بتحقيق العبودية لله التي لاتستقيم إلا على ساق التوحيد.
راحة النفس الموحدة واطمئنانها وسعادتها؛ فهي لا تقبل الأوامر إلا من واحد، ولا تمتثل النواهي إلا من واحد، وبهذا راحة للنفس؛ ولذلك ترتاح النفس وتطمئن، ويسكن القلب ويهدأ، ومن المعلوم لكل عاقل أن النفس لا تحتمل الأوامر من جهات متعددة، فلا يعقل أن يكون للعبد أكثر من سيد، ولا للعامل أكثر من كفيل، وإلا سيقع عندها ضحية الأهواء، فكلٌّ يأمر وكلٌّ ينهى، وعندها لا يدري ماذا يعمل، فيصبح القلب شذر مذر، وفي هم وغم لا يدري من يُرضي.
قال ابن القيم -رحمه الله- في الفوائد: وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره -سبحانه- لفسدتا، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(الأنبياء: 22)، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله -تعالى- فسد فسادًا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه، ويكون الله -تعالى- وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.
إذًا: فلا يعمل الموحد ولا يحب إلا لله، ولا يغضب ولا يكره إلا لله، وهنا يشعر القلب بالراحة والسعادة؛ فهو مطالب بإرضاء الله ولو غضب عليه أهل الأرض قاطبة، هذه هي حقيقة التوحيد، بل هذا هو الإخلاص لله في كل شيء {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(الأنعام: 162-163).
هل سألنا أنفسنا يومًا من الأيام ما هدفنا في الحياة؟ ولماذا خلقنا؟ كثير من المسلمين اليوم ممن يتلفظ بلا إله إلا الله، لو سُئل عن هدفه في الحياة ربما لم يجِب، وربما أجاب لكنها إجابة فيها تردد وحيرة! لماذا خلقنا الله؟ خلقنا الله لعبادته، وما الدليل؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: 56).
تعريف العبادة
وما تعريف العبادة؟ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. ربما يقول قائل: العبادة فقط مقيدة بتلك العبادات الأربع المشهورة عند الناس، الصلاة والصيام والحج والزكاة هكذا يفهم بعض المسلمين الإسلام.
أيها المحب؛ ليس هذا هو مفهوم العبادة التي يريدها الله -عز وجل- منا؛ فنحن نردد أن العبادة -كما أسلفنا-: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح والباطنة في القلب.
إذًا: فكل فعل وقول وحركة وسكون في حياتك هي عبادة لله عز وجل بشرط: أن يحبها الله ويرضاها، وأن تكون خالصة لله، وكما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو هدف المسلم في الحياة، هدف المسلم في الحياة رضا الله -عز وجل- في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل حركة وسَكَنَة، فإذا اتضح الهدف للمسلم ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وشعر بالسعادة؛ لأنه يعيش من أجل هدف سامٍ وغايةٍ واضحة ومبدأٍ عظيمٍ هو: رضا الله.
مفهوم العبادة
وبهذا المفهوم الصحيح للعبادة، فكل شيء في الحياة مع النية الخالصة لله يكون عبادة يؤجر عليها العبد، ولو أردنا أن نأخذ الأمثلة لطال بنا المقام، ولكن خذوا على سبيل المثال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «وفي بضع أحدكم صدقة». إذًا وأنت تقضي وطرك وشهوتك تؤجر عليها «وإن لأهلك عليك حقًّا»، وأنت تجالس أهلك وأولادك وتقضي شأنهم وتعولهم تؤجر، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك وأنت تسعى لكسب الرزق لأولادك تؤجر، «ابتسامتك في وجه أخيك صدقة»، بل حتى النوم تؤجر عليه بشرط أن يكون ذلك النوم على هيئة يرضاها الله -عز وجل-.
ألم يقل معاذ بن جبل: «إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» إذا عشت بهذا المفهوم تشعر بالاطمئان والسعادة والراحة؛ لأن كل حياتك ترضي الله -عز وجل- فتؤجر عليها، تَقدُم يوم تَقدُم على الله وكل صغيرة وكبيرة قد كتبت وسجلت في حسناتك.
الحياة تحلو بالعبادة
الله أكبر؛ ما أحلى هذه الحياة، ما أحلى الدنيا بهموها وغمومها إذا عاش المسلم بمثل هذا المفهوم الواضح البيِّن في حياته، حتى الهمّ -سبحان الله- في حياة المسلم الموحد الصادق؛ حتى المرض والتعب يؤجر عليهما إذا كانا في رضا الله -عز وجل- ألم يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم : «ما يصيب المسلم من همٍّ ولا غمٍّ ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه».
لا إله إلا الله: ما أحلاها في حياتنا قولًا وعملًا، لا كما يريد أعداء الله -عز وجل- فيصورونها للناس أنها في المسجد فقط، وأنها في شهر رمضان وموسم الحج فقط، أما ما عداه فلا؛ ولذلك سمعنا من بعض المسلمين كلمةً تقول: أَدخلوا الدين في كل شيء.
الاستسلام لله بالتوحيد
نعم الدين في كل شيء؛ فنحن مسلمون، والإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك، تسليما واستسلاما لله -تعالى- في كل شؤون حياتنا.
لا حرية لك إلا في حدود الشريعة، لا حرية لك بلباسك ولا بقولك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود؛ لأنك عبد.
فعليك أن تلتزم الأوامر، وتجتنب النواهي كما يريد الله -سبحانه وتعالى- قلت بلسانك: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.. وللحديث بقية بإذن الله.
لاتوجد تعليقات