الحالقة «فساد ذات البين»
لا شك أن ما يحدث في كثير من بلداننا العربية الآن من اقتتال واحتراب نذير شؤم وخطر على الأمة جميعًا، وعلى المصلحين والحكماء السعي بكل ما أوتوا من قوة لرأب الصدع الذي حدث في تلك المجتمعات؛ لأن قوة المجتمعات ومتانتها وعظمها إنما يكمن في الأخوة، وإصلاح ذات البين، ولهذا المعنى العظيم ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع المثال، ليس كلاماً فحسب، بل فعلاً وتطبيقاً على واقع الحياة، ذلك المثل الذي ضربه عندما هاجر إلى المدينة المنورة؛ حيث عمل بهذا المعنى العظيم، وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، تلك القبيلتان المتناحرتان؛ لأنه علم صلى الله عليه وسلم أن فساد ذات البين هي السبب في تشتت المجتمعات، وتفرقها، وضعفها، وتخلفها، ولهذا المعنى السيء حذر النبي-صلى الله عليه وسلم -من فساد ذات البين، وبين خطرها، وأنها تحلق الدين، الذي هو أعظم شيء عند المسلم، فعن أبى هريرة] عن النبي[ قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا ولا تسلموا حتى تحابوا، وأفشوا السلام تحابوا، وإياكم والبغضة فهي الحالقة، لا أقول لكم تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين».
و عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟. قالوا: بلى. قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة».
قال المناوي: «إياكم وسوء ذات البين» أي التسبب في المخاصمة والمشاجرة بين اثنين، أو قبيلتين بحيث يحصل بينهما فرقة أو فساد، فإنها أي: الفعلة أو الخصلة المذكورة، الحالقة أي تحلق الدين. قوله: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة»؟ المراد بهذه المذكورات النوافل دون الفرائض. قال القاري -والله أعلم بالمراد-: «إذ قد يتصور أن يكون الإصلاح في فساد يتفرع عليه سفك الدماء، ونهب الأموال، وهتك الحرم أفضل من فرائض هذه العبادات، القاصرة مع إمكان قضائها على فرض تركها فهي من حقوق الله التي هي أهون عنده سبحانه من حقوق العباد».
وفي الحديث حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة فوق ما يناله المشتغل بخويصة نفسه.
أيها المسلمون: لا يخفى عليكم اليوم ما تمر به الأمة الإسلامية من فساد ذات البين، فإن الاستعمار لما جاء بدأ بتفريعها إلى دويلات صغيرة، وعمل لها الحدود المختلفة لكي تعمل على إضاعة إصلاح البين، وما أكثر الدول اليوم إفسادا لذات البين مع أن الدين واحد، والرب واحد، والقرآن واحد، إلا أنك ترى كل دولة بينها وبين دولة أخرى ما الله به عليم من النزاعات، والمهاجرات، والحروب، وكذلك الشعوب نفسها، فإنها متناحرة فيما بينها مختلفة، متصارعة، ولهذا فإنك تجد أن أمة الإسلام أضعف الأمم، وأن الأمم الكافرة الفاجرة قد سلطها الله عليها؛ لأنها لم تعمل على إصلاح ذات البين، ولهذا فإن الغرب اليوم يسعون لإلغاء هذا الدين من على وجه هذه البسيطة، بعد أن سعوا إلى تحقيق إفساد ذات البين؛ لأنهم يعلمون أنه لا يمكن لهذا الدين أن يلغى من على وجه الأرض إلى إذا فسدت قلوب أهله، وجعلوا حياتهم في نزاع وصراع، وتناحر فيما بينهم، ولهذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة» فإنها الحالقة والله لهذا الدين، وما أشدها ظهوراً في زماننا وفي عصرنا، ولكن المسلمين لم يتنبهوا لهذا الأمر الخطير الذي يهدد هذه الأمة، ويهدد دينها، ومقدساتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أصلح ذات بيننا، وألف على الخير قلوبنا، واجمع شملنا، ووحد صفنا، ولمَّ شعثنا يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تكبت عدونا، وأن تمزق صفهم، وأن تخالف بين كلمتهم وقلوبهم، وأن تمزقهم شر تمزيق يا قوي يا متين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
لاتوجد تعليقات