الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن – من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار
الملكية من أهم سمات الإنسان التي أكرمه الله تعالى بها، فالملكية هي اختصاص إنسان بشيء يخوله شرعا الانتفاع والتصرف فيه وحده ابتداء إلا لمانع.
فالملكية علاقة بين الشخص وما يملكه من الأعيان والمنافع والحقوق، بحيث يثبت له شرعا التصرف في ملكه على الوجه المشروع، ويلزم بقية الناس احترام هذه الملكية وعدم الاعتداء عليها بأي صورة من الصور.
وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالملكية الخاصة، فجاءت الأدلة الشرعية التي تبين أوجه الكسب المشروع، وتحرم أنواع الكسب الممنوع، ووضعت القواعد الكفيلة لحماية الملكية الخاصة، ومنع الاعتداء عليها.
كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
وحرم الإسلام السرقة والغصب، وأوجب رد المال لصاحبه، ومعاقبة السارق بالحد، والغاصب بالتعزير، وأمر بأن تقطع أيدي قطاع الطرق وأرجلهم من خلاف أو يقتلوا أو يصلبوا.
وحذر الإسلام الفرد من الطمع في مال المجتمع بغير حق، ويمنع المجتمع من الاستيلاء على مال الفرد بغير حق، قال الشافعي: «ولم أعلم أحدا من المسلمين اختلفوا في أن لا يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو بنفسه ببيع أو هبة أو غير ذلك أو عتق أو دين في ذمة, فيباع في ماله وكل هذا فعله لا فعل غيره».
وقال ابن القيم: «الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب نفس منهم، إلا في المواضع التي تلزمهم الأخذ فيها».
ومما يؤكد هذا الأصل ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه سمع رسول الله [ يقول: «من ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار».
قال النووي: «قال العلماء معناه: ليس على هدينا وجميل طريقتنا، كما يقول الرجل لابنه: لست مني».
وفي هذا الحديث: تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء، سواء تعلق به حق لغيره أم لا، وفيه: أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه.
فقد دل الحديث على أمرين مهمين:
- الأول: كما قال ابن حجر: «ويؤخذ من رواية مسلم تحريم الدعوى بشيء ليس هو للمدعي، فيدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها مالا وعلما وتعلما ونسبا وحالا وصلاحا ونعمة وولاء وغير ذلك، ويزداد التحريم بزيادة المفسدة المترتبة على ذلك».
فيدخل في الوعيد أصحاب الدعاوى الباطلة الذين يلتمسون أخذ ما ليس لهم مما يملكه الآخرون من أعيان أو منافع أو حقوق بغير وجه حق، كما قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ أموال الناس بغير حق ولو كان شيئا حقيرا لا يلتفت إليه عادة فقال صلى الله عليه وسلم : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة»، فقال له رجل: يا رسول الله؛ وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: «وإن قضيباً من أراك» أخرجه مسلم.
ويدخل في الوعيد أيضا من ادعى علم شيء وهو لا يحسنه كعلم الشريعة والفقه في الدين فيتكلم في الدين ويفتي بغير علم، أو ادعى علم شيء من علوم الدنيا وما يتبعها من المهن والحرف فيضر الناس في أبدانهم أو أموالهم أو حقوقهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» متفق عليه.
قال النووي: «معناه: المتكثر بما ليس عنده، بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور».
وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تطبب ولم يعلم منه طب، فهو ضامن» وحسنه الألباني(ص.ج.6153).
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث يدل بلفظه وفحواه على: أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طبا أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك، فهو آثم. وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما، فهو ضامن له، وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، وهو لا يحسن، فيدخل في الغش، و من غشنا فليس منا، ومثل هذا البناء والنجار والحداد والخراز والنساج ونحوهم ممن نصب نفسه لذلك، موهما أنه يحسن الصنعة، وهو كاذب.
ومفهوم الحديث: أن الطبيب الحاذق ونحوه إذا باشر ولم تجن يده، وترتب على ذلك تلف، فليس بضامن؛ لأنه مأذون فيه من المكلف أو وليه فكل ما ترتب على المأذون فيه، فهو غير مضمون، وما ترتب على غير ذلك المأذون فيه، فإنه مضمون.
- الأمر الثاني الذي يستفاد من الحديث أن الحكم القضائي لا يمتد إلى تغيير الوصف الشرعي مطلقا وهو ما ذهب إليه الجمهور، فحكم القاضي المستند إلى الأدلة الظاهرة التي لا طعن فيها، لا يجعل الحرام في الواقع حلالا للمدعي الذي يعلم بطلان ادعائه.
وذلك لقوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} قال ابن عباس: «هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم أكل حراما «مما يؤكد أن ما يقضي به الحكام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا».
ولقوله صلى الله عليه وسلم : «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار» أخرجه مسلم وهذا الحديث واضح الدلالة في أن حكم القاضي لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.
ولأن حكم القاضي في الحقيقة كاشف للحق وليس منشئا له، فإذا أخطأ في كشف حقيقة المحكوم به، فإن هذا الحكم لا يغير صفة هذا الشيء لأن كشفه غير صحيح.
فعلى كل مسلم أن يتقي الله تعالى، ويكون صادقا مع الله ومع نفسه والآخرين، ولا يتطلع إلى ما ليس له بدعوى باطلة، أو شهادة كاذبة، لينجو من الوعيد الذي ورد في الحديث: «من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار»، وبالله التوفيق.
لاتوجد تعليقات