أشهر شُبُهات الطاعنين في السـُّنَّة والـرد عليـها (1)
من أهم شبهات الطاعنين في السنة التي حاولوا أن يشغبوا بها عليها؛ ليصلوا إلى هدمها والتشكيك فيها، مع الرد على هذه الشبهات وتفنيدها باختصار؛ وهذا هو مقصود رسالتنا للقارئ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المطولات وردود العلماء قديمًا وحديثًا.
الشبهة الأولى:
إنكار حجية السُّنَّة والاكتفاء بالقرآن فهو تِبْيَان لِكُلِّ شَيْءٍ، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأنعام: 38)؛ فهو لا يحتاج إلى غيره.
الجواب: قد ذكرنا فيما سبق وفي معرض حديثنا عن علاقة السُّنَّة بالقرآن وأدلة حجية السُّنَّة أن القرآن لا غنى له عن السُّنَّة؛ فهي المُبَيِّنة والشارحة له، وبدونها فلن يتمكن المسلم من امتثال ما أمره الله -عز وجل- مِن كتابه؛ حيث جاءت هذه الأوامر مجملة، وتحتاج إلى بيان، كما هو الحال في الصلاة والزكاة وغيرهما.
أما قولهم بأن القرآن تبيان لكل شيء، فهو كتاب جامع لخيري الدنيا والآخرة، فهو رد عليهم؛ لأن من جملة تبيانه الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أنها من طاعة الله، وأن سنته وحي يوحى، وأن الله تعالى كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب أنزل عليه الحكمة وهي السُّنَّة، وكما أمر الله -تعالى- بتلاوة آيات الكتاب أمر بذكر الحكمة، قال تعالى آمرًا نساء النبي: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}(الأحزاب: 34)، فحجية السُّنَّة ووجوب اتباعها ثابت بالقرآن، فالرافض للسُّنَّة الطاعن فيها هو في الحقيقة طاعن في القرآن لم يمتثل لأوامر ربه؛ فهو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(النساء: 80).
الشبهة الثانية:
قالوا: كيف نأخذ الدين من السُّنَّة أصولًا وفروعًا، وأغلبها أخبار آحاد واحتمال الخطأ والوهم بل والكذب وارد على الراوي، بخلاف القرآن فإنه قطعي منقول بالتواتر؟
الجواب:
(1) أن الله -عز وجل- قد أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه، وبيَّن لنا أن سنته هي بيان للقرآن: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(النحل: 44)، وهذا عام لمن كان في زمنه، وكل من يأتي بعده، ومعلوم أنه لا سبيل -لمن لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم - إلى طاعته واتباع سنته إلا عن طريق الأخبار، فنكون مأمورين شرعًا بقبول أخبار الثقات العدول؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
(2) أن أحكام القرآن ذاتها لن نتمكن من معرفتها وامتثالها إلا بالرجوع إلى السُّنَّة، ولن يتم ذلك إلا بقبول الأخبار والأحاديث الثابتة.
(3) أن هناك أحكامًا يتفق عليها الجميع حتى أولئك الذين يردون الأخبار؛ كصفات الصلوات والزكاة ومناسك الحج، ومعلوم أنه لا سبيل إلى علمها إلا بما ورد من السُّنَّة.
(4) أن الأخبار وإن ورد عليها احتمال الخطأ والوهم، لكن هذا الاحتمال بعد التثبت من الخبر والتأكد من عدالة الراوي وضبطه وعدم مخالفته للثقات يصبح احتمالاً ضعيفًا جدًّا؛ فإذا ما عضد الرواية نص آخر من كتاب أو سُنَّة يصبح هذا الاحتمال معدومًا.
(5) أن هذه الاحتمالات -نعني: الخطأ أو الوهم، بل والكذب- واردة على الشهود والبيانات في إثبات الحقوق وغيرها من الخصومات، ومعلوم أنه لم يقل أحد مِن العقلاء البتة أن الشهادات ترد مطلقًا لورود هذا الاحتمال، بل الجميع متفق على أنه يكفي التثبت والتأكد من عدالة الشهود، فما الذي يمنع ذلك في الرواية أيضًا؟
الشبهة الثالثة:
قالوا: حتى لو قَبِلْنَا بحجية أحاديث الآحاد في فروع الدين، فلن نقبل بذلك في أصول الدين الذي لا بد أن يكون دليله قطعيًّا، وأحاديث الآحاد دلالتها ظنية، والظن لا يغني من الحق شيئًا.
الجواب: أن هذه شبهة مردودة من وجوه عدة:
(أ) أن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(التوبة: 122)، والطائفة تقع على الواحد فأكثر.
(ب) أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذًا إلى أرض اليمن قائلًا: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه لا إله إلا الله...». الحديث، فدعاهم إلى أصول الدين وفروعه، وقامت به الحجة وهو واحد.
(جـ) أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل الرسل إلى ملوك الأرض لدعوتهم، وكانوا آحادًا، وقامت بهم الحجة عليهم. وغير ذلك مِن الأدلة كثير، وقد رد الإمام الشافعي على منكري حجية أحاديث الآحاد في كتابه «الرسالة» بالتفصيل، وكذا الإمام ابن حزم رحمهما الله.
أما زعمهم بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن، فقد قال تعالى: {وإن الظن لا يُغني من الحق شيئا} (النجم: 28)، فهو استدلال في غير موضعه؛ لأن الظن المعاب هنا هو الذي بمعنى الشك والخرص والتخمين، وهذا لا يؤخذ به في الأحكام، فكيف يؤخذ به في العقائد؟ وهو الذي عابه الله على المشركين بقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(الأنعام: 116)، وبقوله -تعالى-: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}(النجم: 23)، فالله -تعالى- أنكره عليهم إنكارًا مطلقًا، لم يخصه بعقيدة دون حكم.
وأما الظن الذي تفيده أحاديث الآحاد –على قول من يقول بذلك– إنما هو الظن الراجح لا المرجوح الذي عابه الله على المشركين؛ لأنه مبني على اتباع الهوى والخرص والتخمين، فهو أولى بالذم، وأما الراجح فقد مدحه الله -تعالى- في أكثر من آية؛ كقوله سبحانه: {إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه فهو في عيشة راضية}(الحاقة: 21)، وقوله تعالى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(البقرة: 46)، ومن هنا يتضح خطأ أهل الاعتزال الذين فسروا الظن الذي تفيده أحاديث الآحاد بظن المشركين، وهو زعم لا دليل عليه.
والقول بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن ليس موضع اتفاق بين العلماء، بل الخلاف بينهم قائم في ذلك؛ فجمهور الأصوليين على أنه يفيد الظن، وذهب جمهور أهل الحديث وأهل الظاهر وجماعة من العلماء على أنه يفيد العلم اليقيني، وذهب جماعة آخرون على أنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن.
يقول العلامة أحمد شاكر رحمه الله: «والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم، ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل، وهذا العلم يبدو ظاهرًا لكل مَن تبحَّر في علم مِن العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها، ودَعْ عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن؛ فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد».
الشبهة الرابعة:
قالوا: إن الله -عز وجل- تكفَّل بحفظ القرآن، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: 9)، ولم يتكفل بحفظ السُّنَّة.
الجواب:
(1) أن الآية دليل عليهم لا لهم؛ فالوعد بحفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل الدين كله؛ لأن هذا هو المراد بالذكر كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(الأنبياء: 7)؛ أي: أهل العلم بدين الله عز وجل.
(2) أنه مِن المعلوم أن السُّنَّة هي بيان القرآن كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؛ فحفظ القرآن حفظ بيانه وهي السُّنَّة؛ لأنه لا تقوم الحجة على الخلق إلا بذلك.
قال العلامة ابن حزم: «هذه دعوى كاذبة مجردة عن البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مِن قرآن أو سُنَّة حتى يبين بها القرآن، وأيضًا فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس، وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله -تعالى- فيه بلفظه، لكن نعلمه ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه».
لاتوجد تعليقات