الانتخابات التركية… تعثر للمشروع الرئاسي أم سقوط للحزب الحاكم؟
تراجع حزب الحرية والتنمية في الانتخابات الأخيرة كان ملحوظا، وقد يكون أحد أسبابه النظام الرئاسي الذي تم طرحه، وقد قضت هـذه النتيجة على مشاريع أردوغان بتعديل الدستور، وفي الوقت الذي أكد رئيس الوزراء أن حزب العدالة والتنمية هو الفائز، إلا أن المعارضة ترى أنها تقدمت على حساب العدالة والتنمية، وبهذه النتيجة تعد تركيا قد دخلت مرحلة جديدة وباتت على مفترق طرق.
وعليه فإن الانتخابات الأخيرة تؤكد تراجعا ملحوظا لحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تربع على عرش الحكومة التركية أكثر من 13 سنة متتالية، ولكن هذا التراجع لم يمنع الحزب أن يتصدر المشهد ورغم ذلك يضطر إلى تحالف بعض الأحزاب الأخرى أو يذهب إلى تشكيل حكومة أقلية قد لا تتمكن الاستمرار لمدة طويلة، وقد أعادت هذه الانتخابات الأنظار إلى عهد الحكومات الائتلافية التي عرفتها تركيا في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، كما أنها برهنت على تململ جزء من الشارع التركي من سياسة الحزب فضلا عن رفضهم للنظام الرئاسي الذي تم طرحه ضمن المشروع الانتخابي للحزب، ورغم الإنجازات الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية على صعيد الاقتصاد والبنية التحتية إلا أن هذا كله لم يشفع له؛ لأن النتائج في الانتخابات الديمقراطية لا ترتبط دائما مع الإنجازات؛ حيث تؤدي الدعايات الإعلامية دورها فضلا عن الاختلافات الإيدلوجية المرتبطة بالنعرات القومية والمتنامية في بلد مثل تركيا، وقد قضت هذه النتيجة على مشاريع أردوغان بتعديل الدستور لإقامة نظام رئاسي قوي في تركيا، وكان يلزمه من أجل تمرير هذه الإصلاحات الفوز بـ330 مقعدا لكي يتمكن حزبه اعتماد هذه التعديلات بمفرده.
استقرار البلد
وفي سياق التصريحات ما بعد الانتخابات قال رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو إن حزب العدالة والتنمية هو الفائز الواضح في الانتخابات، وتعهد باتخاذ كل الإجراءات الضرورية لمنع أي ضرر يلحق بالاستقرار السياسي للبلاد.
بدوره عدّ رئيس حزب الشعب الجمهوري (مراد كارايالجين) أن نتائج الانتخابات تعبر عن رفض واضح من الناخبين لمسعى الرئيس رجب طيب أردوغان لنيل صلاحيات واسعة والتحول باتجاه نظام رئاسي تنفيذي.
خسر مقاعد وكسب التاريخ
ومن جانبه يرى الكاتب سعيد الحاج أن الحزب لم يفشل فقط في الوصول إلى 367 نائبا لتغيير الدستور عبر البرلمان، وفقد حتى فرصة طرحه على الاستفتاء الشعبي (330 مقعدا).
كما يؤكد الباحث الأكاديمي المصري د. بشير عبد الفتاح أنه على عكس باقي أحزاب المعارضة كان برنامج حزب العدالة هو الأكثر واقعية وملامسة لطموحات الجماهير؛ إذ طرح رؤية متكاملة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة لتركيا غير مرهونة بفترة بقاء الحزب في السلطة، لذلك عرض مشروعات طموحة يصل مداها إلى عام 2023، موعد الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية؛ حيث تعهد الحزب بتنفيذ برنامج طموح ينشد وضع اقتصاد تركيا ضمن قائمة الاقتصادات العشرة الكبرى عالميا بعد خفض معدل البطالة إلى ما دون 5% ورفع حجم الاقتصاد من 75 مليار دولار إلى تريليوني دولار، ووصول معدل دخل الفرد إلى 25 ألف دولار سنويا. هذا فضلا عن إعداد دستور جديد وتسوية كل المشكلات السياسية وفي مقدمتها قضية الأكراد والعلويين، وتعزيز الدور الإقليمي التركي.
بينما يرى الكاتب الصحفي المصري فهمي هويدي أن حزب العدالة والتنمية لم يخسر في الانتخابات بل كسب التاريخ والديمقراطية، حيث قال في تصريحات له لوكالة الأناضول: إذا كان حزب العدالة والتنمية خسر مقاعد، فهو كسب التاريخ والديمقراطية، وكأن الحزب الحاكم، والرئيس رجب طيب أردوغان، هما من أهدوا الفرصة للحزب الكردي ليفوز بـ80 مقعداً، وأضاف هويدي قائلاً: «ليس صحيحاً أن الحزب الحاكم خسر، بل بالعكس لقد كسب الديمقراطية؛ لأن صحة الديمقراطية تعني ما فعله حزب العدالة والتنمية وليس احتكار السلطة مطلقاً لأعوام.
تشكيلة البرلمان
وقد أفرزت الانتخابات الأخيرة هذه التشكيلة التي غيرت المعادلة السياسية القديمة حيث أدلى 47 مليونا و462 ألفا و695 ناخبا بأصواتهم، وبلغت نسبة أصوات حزب العدالة والتنمية 40.86% خولته للفوز بـ258 مقعدا في البرلمان، وحصل حزب الشعب الجمهوري على 24.96% من الأصوات، وتمكن من الفوز بـ132 مقعدا، كما حصد حزب الحركة القومية 16.29% من الأصوات، وفاز بثمانين مقعدا، في حين نال حزب الشعوب الديمقراطي –ذو الأغلبية الكردية- 13.12% من الأصوات، التي أهلته لدخول البرلمان لأول مرة في تاريخه حاصدا ثمانين مقعدا من أصل 550، وبلغت نسبة المشاركة الإجمالية 86% من عدد الناخبين، حسب أرقام أوردتها وكالة الأناضول. ويبلغ مجموع المواطنين الذين يحق لهم التصويت أكثر من 53 مليونا داخل تركيا، وثلاثة ملايين في الخارج، وتعد هذه المرة الرابعة على التوالي التي يفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية، لكنها الأولى دون زعيمه السابق رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان.
السيناريوهات المتوقعة
وبحسب مراقبين، فهناك ثلاث سيناريوهات محتملة، تنتظر تركيا في المرحلة القادمة، أولها تشكيل حكومة ائتلافية بين الأحزاب التي تمكنت من دخول البرلمان، والثاني تشكيل حكومة أقلية، والثالث التوجه إلى انتخابات نيابية مبكرة.
وفي السياق نفسه يؤكد الباحث سعيد الحاج أن تركيا دخلت مرحلة جديدة وباتت على مفترق طرق، فإما حالة استقرار بمعادلات وديناميات جديدة وإما انتخابات مبكرة غير مضمونة السياق أو النتائج، وسيكون المحدد الأبرز للمشهد التركي مدى تحلي الأحزاب الأربعة بروح المسؤولية والحكمة في إدارة هذه المرحلة الجديدة، خصوصا في ظل إشارات أولية بتأثر الاقتصاد التركي بالنتائج المفاجئة، وتخوف المواطن التركي من عودة شبح الانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية التي عانت منها تركيا ما قبل العدالة والتنمية.
كما يرى الباحث علي باكير إلى أن الاحتمالين الأكثر ترجيحا هما ائتلاف العدالة والتنمية إما مع حزب الشعوب الديمقراطي أو حزب الحركة القومية، وأوضح أن حزب العدالة والتنمية قد يتفق مع حزب الشعوب على إعطائه دورا أكبر في السياسة التركية والعمل على تحسين أوضاع الأكراد وإتمام عملية السلام الداخلي لكنه أضاف أن هذا الائتلاف قد يواجه صعوبات بسبب اختلاف الحزبين على صعيد السياسة الخارجية.
اختبار صعب
في الوقت نفسه يرى باكير أن الائتلاف مع حزب الحركة القومية قد يكون خيارا مطروحا؛ لأن ما يسمون بالقوميين الإسلاميين قد يشجعون هذا التحالف، لكنه أشار إلى أن هذا الخيار سيواجه اختبارا صعبا فيما يتعلق بعملية السلام مع الأكراد التي يرفضها القوميون وكذلك على صعيد السياسة الخارجية.
ويشير الكاتب السوري خورشيد دلي إلى فرضية وجود تحالف سري بين الحزب الكردي وبقية قوى المعارضة، ولاسيما جماعة فتح الله غولن لإسقاط العدالة والتنمية، ولكنه يتوقع عدم استسلام أردوغان للوضع الجديد وعدم تخليه عن تطلعاته لمرحلة «تركيا الجديدة» التي كان يتطلع إلى تحقيقها بحلول عام 2023.
حكومة ائتلافية
ويتوقع أن يكون هناك تشكيل حكومة ائتلافية بين العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، بسبب وجود مشتركات أيديولوجية كثيرة بينهما، ولكن هذا الأمر يتطلب من العدالة والتنمية التضحية بالعملية السلمية مع الأكراد نظرا لأن حزب الحركة القومية يرفض أي اعتراف بوجود قضية قومية كردية، فضلا عن التفاهم على صيغة النظام الرئاسي، وهذا الأمر قد يؤثر سلبا على حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي أعلن رفضه التحالف مع العدالة والتنمية.
وبدوره يؤكد الباحث التركي ورئيس مركز (إيدام) البحثي في إسطنبول (سنان أولجن) أن ما يتوقف على نتائج الانتخابات ليس مستقبل أردوغان فحسب، بل وأيضا احتمالات التوصل إلى تسوية طويلة الأمد مع الأكراد في البلاد، وسلامة الديمقراطية التركية ذاتها في الأمد البعيد.
لماذا تعثر الحزب؟
ويبدو أن أهم عوامل هذا التقهقر كان التغيير في قيادة الحزب؛ حيث خسر أولا مؤسسه وقائده أردوغان الذي انتقل إلى القصر الرئاسي، كما خسر جهود سبعين من قيادات الصف الأول وأصحاب الخبرات والإنجازات فيه بسبب نظامه الأساسي الذي يمنع الترشح لأكثر من ثلاث فترات متتالية، من ناحية أخرى، يبدو أن الفوز بتسع مناسبات انتخابية متتالية منذ 2002 قد أدى إلى بعض الكسل والتراخي بين المسؤولين والأنصار من جهة، كما قلل من الحماسة للتصويت، بسبب تراجع الشعور بالمظلومية والتهديد في حال غياب الحزب عن المشهد السياسي من جهة أخرى، كما يبدو أن أردوغان وحزبه السابق فشلا في تسويق مشروع النظام الرئاسي للبلاد ولم ينجحا في طمأنة المتوجسين من إمكانية جنوح البلاد نحو الدكتاتورية، كما أن مشاركته الفاعلة في ميادين الانتخابات -رغم دستور يفترض حياديته- قد زادت من هذه المخاوف، وأعطت شعورا بعدم الثقة بداود أوغلو نفسه، فضلا عن أن الأحزاب المعارضة الثلاثة اجتمعت على مهاجمة الحزب الحاكم وتجنب الانتقادات البينية؛ مما وضع إخفاقات العدالة والتنمية وأخطاؤه تحت مجهر الناخب التركي، ولاسيما في ظل دعم واضح من وسائل الإعلام المحسوبة على جماعة غولن ومجموعة (دوغان) المعارضة.
الدور الطاغي للرئيس
هل ساهمَ هذا الحضورُ الطاغي له في تهميش رئيس الوزراء، الذي أصبح عملياً رئيس الحزب، ويجب أن يستمر حضورهُ قوياً بوضوح؟ وهل زادَ الأمرُ من (تخويف) الآخرين، داخلياً وخارجياً، إلى درجةٍ دفعهم للوقوع في (رهاب) شخصيٍ ضد الرجل يدفع لاجتماعهم ضد الحزب.
وللإجابة عن هذه التساؤلات يرى الباحث التركي علي حسين باكير أن من الأخطاء التي ارتكبها أردوغان في المرحلة السابقة التي كانت سببا لتراجع دور الحزب هو إسناد رئاسة الحزب والحكومة لداوود أوغلو، ومحاولة ممارسة السلطات الاستثنائية لرئاسة الجمهورية على حساب الحكومة؛ لأن هذا الوضع أظهر داوود أوغلو في موقع الضعيف والتابع.
ومن المفارقات العجيبة في السياسة أنه لم يكن متوقعا للكثيرين أن تكون مرحلة رئاسة السياسي المحنك أحمد داوود أوغلو -الذي كان يعد من أبرز مفكري الحزب وواضعي سياساته- مرحلة تعثر للحزب لولا هذا الدور الطاغي المهيمين لرئيس الجمهورية ورئيس الحزب السابق رجب طيب أوردوغان، ورغم ذلك فإن الناخب التركي لم يرفض برنامج الحزب وإنجازاته السابقة بقدر ما رفض المشروع الرئاسي الجديد الذي تم استخدامه من قبل المعارضة لتشويه صورة الحزب وتصويره بمثابة الساعي إلى نظام رئاسي للاستفراد بالسلطة فضلا عما أثير ضد الحزب من فساد ومحاولة تقليص الحريات العامة، وهل يتمكن أحمد داوود أوغلو من تجاوز هذه العثرة السياسية أم يؤكد نهاية هيمنة حزب العدالة والتمنية للسياسة التركية لتعود سياسة البلاد إلى نفق الحكومات الائتلافية والتراجع الاقتصادي.
أحمد داود أوغلو
ولد أحمد داود أوغلو في 26 فبراير/شباط 1959 في (قونيا) بوسط تركيا، وأكمل دراسته الثانوية في المدرسة الألمانية الدولية في إسطنبول، وتخرج عام 1983 في كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة البوسفور في تخصصي الاقتصاد والعلوم السياسية، ونال شهادة الماجستير في الإدارة العامة، والدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة ذاتها، وعمل عام 1990 أستاذا مساعدا في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا التي أسس فيها قسم العلوم السياسية لغاية 1993 ثم عمل أستاذا مشاركا بين 1995 و1999 في معاهد ومؤسسات تابعة لجامعة مرمرة، وشغل في الفترة بين 1998 و2002 منصب متحدث زائر في الأكاديمية العسكرية وأكاديمية الحرب.
واختارته مجلة «فورين بوليسي» في 2010 ضمن أهم مائة مفكر في العالم، وذلك باعتباره أحد أهم العقول التي تقف وراء نهضة تركيا الحديثة، وبدأت مسيرته في المضمار السياسي عام 2002 مستشارا أعلى لرئيس الوزراء، ثم تسلم عام 2009 حقيبة الخارجية، وقد توجت مسيرته السياسية باختياره رئيسا لحزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، وتكليفه برئاسة الوزراء في أغسطس2014.
لاتوجد تعليقات