قواعد في الدعوة إلى الله تعالى – 7- خاطبوا الناس على قدر عقولهم
الدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، وتظهر الحكمة في معرفة المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس، والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل من يعرف، وهو يتعامل مع العقول بحسب مقدرتها لا بحسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها، وقد فهم ابن عباس - رضي الله عنهما - قول الله تعالى {وَلَكِنْ كُوْنُوْا رَبَّانِيِّيْنَ}(آل عمران: 79)، فقال: «كونوا حلماء فقهاء» وقال البخاري: «ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره» راجع صحيح البخاري كتاب العلم باب العلم قبل القول والعمل.
والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول؛ حتى لا تنفر من الدعوة. قال ابن حجر: «والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دقّ منها» راجع فتح الباري كتاب العلم 1/224. ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها:
ساق البخاري حديثاً (في كتاب العلم) ترجم له بقوله: باب 48 من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصُر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. ثم أخرج من طريقه إلى (الأسود) قال: قال لي (ابن الزبير): «كانت عائشة تُسِرّ إليك كثيراً، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت : قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ياعائشة، لولا قومك حديث عهدهم ـ قال ابن الزبير: بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون».
قال ابن حجر -رحمه الله- «ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة» راجع فتح الباري 1/225 كتاب العلم.
وقال البخاري -رحمه الله- (باب49 من خُصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا)، وقال علي رضي الله عنه : «حدّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله».
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ : «ومن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، «أي كره التحديث ببعض الأحاديث التي لا يفهمها العامة دون تلك التي تفهم».
ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين، وأنه كره أن يحدث بأحدهما، ونحوه عن حذيفة، «والحديث (120) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب 42 حفظ العلم وهو قول أبي هريرة: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. والمقصود به أحاديث الفتن».
وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وقصة العرنيين هي قصة قوم من عرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، أي لم يناسبهم جوُّها، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم إبلاً من إبل الصدقة يشربون ألبانها، ويستشفون بأبوالها، فقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل، فلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وتركهم عطشى في الحرَّة. ويلاحظ أن تحديث «الحجاج» بهذا يحمله على المبالغة في سفك الدماء، كما قال ابن حجر.
أخرج الإمام مسلم بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، قوله: «ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
وأخرج البخاري (في كتاب العلم باب 49 من خُصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا، رقم 127) عن أنس رضي الله عنه : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ بن جبل قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال : يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ( ثلاثاً) قال: ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من قلبه إلا حرّمه الله على النار، قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشرون؟ قال إذاً يتكلوا. وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً»؛ وذلك لأن هذا الحديث إذا سمعه الناس فإنهم يحملونه على محمل خطأ، وهو ترك العمل والاكتفاء بالإقرار، ومعنى أنه أخبر به تأثماً أي: أخبر به قبل موته مخافة الإثم حتى يبقى الحديث ولا ينقطع بوفاة معاذ رضي الله عنه.
والناس أمام هذا الأصل أصناف:
- الصنف الأول: العوام غير المتعلمين، والتعامل معهم ودعوتهم في غاية الصعوبة، وحالهم كحال المبتدئ في تعلم القراءة والكتابة، وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة. وهؤلاء لا تُلقى عليهم المسائل العويصة، ولا تفاصيل الدقيقة، والبراهين العقدة والنظم المتشعبة، وهذا الصنف يحتاج المتخصص في فن دعوتهم ومخاطبتهم. وهؤلاء يعتمدون على المحسوس أكثر مما يعتمدون على المجرد، وحاجاتهم الخاصة وظروف حياتهم أقرب الوسائل إلى قلوبهم. والأمثلة المنتزعة من بيئتهم الخاصة هي الأمثلة المفهومة. وهؤلاء تحركهم العاطفة أكثر مما يحركهم العقل. وللترغيب والترهيب في نفوسهم أثر كبير. ومما يشحذ هممهم قصص الصالحين، وأخبار الأولياء، وأحداث السيرة، على طريق السرد لا على طريق التحليل.
- الصنف الثاني: المتعلمون من خريجي الجامعات، ومن في مستواهم في التقدم المعرفي، وهؤلاء يبحثون عن التحليل والاستنتاج والمعنويات ودلائل الإعجاز، وعند مخاطبتهم فإنه لابد من مراعاة منزلتهم العلمية. ومن يستطيع مخاطبة العوام قد لا يستطيع مخاطبة الخواص، وإذا خاطبهم من هو دونهم فقد يفتنهم.
- الصنف الثالث: أصحاب التخصصات العلمية، إذ لكل تخصص مصطلحاته ووسائله، ومن يتعرف على هذا المناخ الخاص فإنه أقدر على توجيهه ولفت نظر أصحابه إلى الدلائل مما بين أيديهم؛ فالداعية بين المحامين يحتاج إلى معرفة شيء عن القوانين والصالح والطالح منها، وأما بين الأطباء فهو بحاجة إلى معرفة بعض الجوانب التي تُوقف الطبيب على عظمة الله وقدرته في خلق الإنسان ووظائف أعضائه. وإذا كان الداعية من أهل الاختصاص المزودين بالعلم الشرعي فإن المردود يكون أعظم؛ ولذا فإن على الداعية صاحب العلم الشرعي أن يأخذ نفسه بالتثقيف، وأن ينوع معارفه، وإذا كلف بالدعوة في قطاع متخصص فالأجدر به أن يدرس هذا القطاع، وأن يزداد معرفة بهذا الجانب الثقافي.
لاتوجد تعليقات