قواعد في الدعوة إلى الله تعالى (5) على الداعية أن يقدم الجهد البشري وهو يطلب المدد الرباني
شاء الله -تبارك وتعالى- أن تعمل هذه الدعوة بالوسائل البشرية. والداعية الحق هو الذي يستطيع أن يوظف عالم الأسباب من أجل دعوته، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل ليله بنهاره، آخذاً بالأسباب ومستخدماً لأساليب عصره المتاحة، ولم يقل: بما أنه يوحى إلي فإن لي طريقة أخرى في التماس النظر، وإننا لنجد في تفاصيل سيرته صلى الله عليه وسلم تطبيقات واسعة لهذا المبدأ، ويوم أن خالف بعض الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقصروا في الأخذ بالأسباب، كانت تلك النتيجة المفجعة في معركة أحد رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، والوحي يتنزل عليه.
وفي قول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة: 286)، بيان شاف لهذا المبدأ، والتكليف هو الأمر بما يشق عليه. والتكليف هنا مرتبط بالوسع الذي هو الطاقة والجِدَّة، قال القرطبي: «نص الله -تعالى- على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وفي هذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأويلهم أمر الخواطر» (تفسير القرطبي 3/429)، أي لم يكلفهم الله بما في خواطر النفوس وخلجات القلوب.
فهم خطأ:
والناس اليوم يفهمون هذه الآية على أن الوسع هو أدنى ما يستطيعه المرء؛ ولذلك فإن هذا الوسع متقلب متغير حسب الدوافع، فقد يدعي المسلم أنه لا يجد سوى ساعة من فراغ قائلاً: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ثم يزيد هذا الجهد إلى ساعتين قائلاً: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ثم نجد وقته يتسع لثلاث ساعات من العمل فيقول: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وهذا التقلب والتغير في ظرف واحد وزمان واحد دليل على أن الادعاء الأول لم يكن صحيحاً، وأنه لم يبذل وسعه في المرّة الأولى والثانية والثالثة.
ونحن لا ننسى أن الناس متفاوتون في أصل المقدرة والجهد، وأن مساحات نفوسهم متفاوتة كذلك، ولكن المطلوب أن تصل هذه النفس إلى أكبر عطاء لها، وأن يكون جهدها متزايداً متصاعداً كل يوم، وإن قدراً كبيراً من طاقة العاملين والدعاة محكوم عليه بالهدر والضياع، إن لم يُستغل في سبيل الحق والدعوة. وإن كثرة العاملين الذين يقدمون بعض ما يستطيعون يعيقون السير وتزدحم بهم الطرق، تماماً كالعربات التي تملأ الطريق في الوقت الذي لا تحمل من وسعها سوى الشيء القليل.
إن الله -تعالى- خلق هذا الإنسان وجعل في وسعه الكثير الكثير، ونحن في هذه الحياة نقرأ عن بعض المنحرفين ومدمني الإجرام، أنهم يبذلون جهداً في سبيل انحرافهم وإجرامهم ما يجعلهم يواصلون الليل والنهار، ويقطعون شاسع المسافات، ويعانون ضروباً من التحمل والصبر ما يحير الألباب، ويبذلون من الأموال، ويركبون من الأهوال والمخاطر ما يثير العجب العجاب. والذي يستطيع فعل الشر فإنه يستطيع فعل الخير، ومن يركب المصاعب والأهوال في سبيل الباطل فإنه قادر على ذلك في سبيل الحق والخير.
الصحابة يلتزمون بمعيار الوسع:
وعندما نقرأ سير الأولين من الأصحاب -رضوان الله عليهم - نرى أن أكثرهم قد مات خارج بلده؛ فهذا (أبو أيوب الأنصاري) يرقد عند أسوار القسطنطينية، وهذه (أم حرام بنت ملحان) ترقد في جزيرة قبرص، وهذا (عقبة بن عامر) يرقد في مصر، وهذا (بلال) يرقد في دمشق، وهكذا فقد اندفع هؤلاء الأصحاب في أصقاع الأرض يرفعون راية الإسلام، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيله، وهذا من منطلق إيمانهم بقول الله تعالى: {لا يُكلف الله نفساً إلى وسعها} ونراهم بعد غزوة أحد لا يلبثون حتى يجيبوا داعي الله فيلحقوا بالمشركين، فقال أسيد بن حضير وبه سبع جراحات يريد أن يداويها: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، وأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء، ولحق برسول الله[، وخرج من بني سلمة أربعون جريحاً: بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحاً وبخراش بن الصمّة عشر جراحات» (إمتاع الأسماع للمقريزي 1/167) وكان ذلك في غزوة حمراء الأسد، وهذا خير دليل على أن الإرادة القوية تبذل من الجهد ما يتحدى المصاعب والآلام، وأن الإرادة الضعيفة عاجزة حتى مع وجود الوسائل والإمكانيات.
ولقد ذكر الله هؤلاء الأصحاب في قرآن يُتلى؛ حيث قال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}(آل عمران: 172).
الاستطاعة والإرادة:
والجدير بالذكر أن الاستطاعة فيها جانب إرادي نفسي يدفع إليها، ويعمل على تحقيقها بإذن الله تعالى، وإذا انعدم هذا الجانب فإن المرء يصاب بالعجز، ومن هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا بأن ندعو الله قائلين: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» (رواه الشيخان)، وقال أيضاً: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»(أخرجه مسلم) وإن الشعور بالعجز وعدم الاستطاعة الذي يتردد على ألسنة الدعاة -وقد يفعلون ذلك ويقولونه من باب التواضع- ليعمل على هدر الطاقات الإسلامية وتأخير ركب الدعوة.
وما لم يزج الداعية نفسه في غمار دعوته دون خوف من الفشل، غير عابئ بما يوجه له من النقد، فإنه لن يتقدم ولن يصل إلى دفة التوجيه والتغيير.
حدود الوسع ومعياره:
وقد يسأل سائل: وما حدود الوسع والطاقة؟
والجواب على ذلك تضمنته الآيات القرآنية الكريمة التالية:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}(الأنفال: 74.)
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ}(التوبة: 20).
{إنما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(الحجرات: 15).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(الصف: 10-11).
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(التوبة: 41).
ومعنى قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالا}، أي: سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد، أو على الصفة التي يثقل، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة:
- فالأولى: خفافاً في النفور لنشاطكم، وثقالاً عنه لمشقته عليكم.
- والثاني: خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتهم.
- والثالث : خفافاً من السلاح وثقالاً منه.
- والرابع: ركباناً ومشاة.
- والخامس: شباباً وشيوخاً.
- والسادس: مهازيل وسماناً.
- والسابع: صحاحاً ومرضى.
والصحيح ما ذكرناه؛ إذ الكل داخل فيه؛ لأن الوصف المذكور وصف كلي (تفسير الرازي ، 16/70).
وقد فهم كثير من الصحابة والتابعين هذه الآية على إطلاقها، قال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدراً مع رسول الله[ ولم يتخلف عن غزوات المسلمين، ويقول: قال الله : {انفروا خفافاً وثقالاً} فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً.
وعن صفوان بن عمرو قال: كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، قلت: يا عم، أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إن من أحبه الله ابتلاه.
وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد كثرتُ السواد، وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو: أنت معذور، فقال: أنزل الله علينا في سورة براءة: {انفروا خفافاً وثقالاً} (تفسير الرازي 16/70).
لاتوجد تعليقات