قواعد في الدعوة إلى الله تعالى (4) على الداعية أن يصل إلى رتبة المُبَلِّغ وأن يسعى إلى البلاغ
ليس أمر الدعوة إلى الله بأقل من أمر الدعوة أو الدعاية إلى سلعة دنيوية، ونحن على يقين أن صاحب البضاعة يستخدم أقوى الوسائل وأوسعها انتشاراً من أجل إيصال الجمهور إلى درجة القناعة ببضاعته، ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل. وقد جعل الله -تعالى- مهمة رسله وأنبيائه البلاغ، فقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النحل:35). ووصف البلاغ بأنه المبين. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} (الأحزاب: 39).
وعند إعراض الناس عن الإيمان كان يأتي التأكيد على وصول الأنبياء إلى رتبة البلاغ، قال تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (الأعراف: 79).
وكلمة بَلَغَ: تعني وصل أو قارب على الوصول، يقول ابن فارس (في معجم مقاييس اللغة): «الباء واللام والغين أصل واحد (أي معنى واحد)، وهو الوصول إلى الشيء تقول: بلغت المكان إذا وصلت إليه»، ويقول: «وكذلك البلاغة التي يمدح بها الفصيح اللسان لأن يَبلُغ بها ما يريده».
وقال الأزهري (في تهذيب اللغة): «والعرب تقول للخبر يبلغ أحدهم ولا يحققونه، وهو يسوؤهم: سمعٌ لا بلْغٌ، أي نسمعه ولا يبلغنا، ويجوز: سمعاً لا بلغاً».
وهذا دليل على أن استعمال كلمة البلاغ إنما كان لما فيها من طبيعة الوصول والانتهاء.
ب- ولا معذرة للداعية إذا قصر في البلاغ، ولقد نبه الله -تبارك وتعالى- نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا قائلاً : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة: 67).
قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية سورة المائدة 7: «وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من شريعته». وليس المقصود بالبلاغ مجرد الإخبار أو الإعلان، إنما المراد أن تصل رسالته للناس.
ج- ومن مقتضيات البلاغ أن يعي الداعية ما يُبلغه؛ لأنه لا تبليغ بلا وعي، ويستفاد هذا من قوله صلى الله عليه وسلم : « نَضَّرَ الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرَبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يُغَلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم»رواه أبو داود الترمذي وحسنه وابن ماجه والدارمي، وحسنه الألباني.
قال الخطابي في(معالم السنن 4/187) عند شرحه لهذا الحديث: «نَضَّر الله معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة». وهذه النضارة من آثار التبليغ على المُبلِّغ فالمُبَلِّغون أصحاب الوجوه الناضرة في الدنيا والآخرة.
واستفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي بالفقه.
وعلى هذا فإن الوعي يكون بحفظ النص وأدائه كما قيل. ويكون للفقيه بمحافظته على المعاني المستفادة، ويترتب على هذا الحديث كل ما يتعلق بالرواية والدراية من العلوم والتفاصيل.
د- ومن مقتضيات البلاغ البلاغة.
والبلاغة في تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (النساء: 63): أن يكون كلاماً حسن الألفاظ، حسن المعاني، مشتملاً على الترغيب والترهيب والتحذير والإنذار والثواب والعقاب، فإن الكلام إذا كان هكذا عَظُم وقعه في القلب، وإذا كان مختصراً ركيك الألفاظ ركيك المعنى، لم يؤثر البتة في القلب (راجع تفسير الرازي للآية، والمعروف باسم التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب).
وقال في اللسان (لسان العرب 10 /203): رجل بليغ: حسن الكلام فصيحه، يُبَلِّغ بعبارة لسانه كُنْه ما في قلبه.
وليست البلاغة في صعوبة الألفاظ والأساليب، والبحث عن وحشي الكلام وغريبه.
وبناء عليه فإن على المُبلِّغ أن يعلم من لغة العرب وأساليبهم ما يعينه على البلاغ.
ومقتضى هذا: بحث، واطلاع، واعتناء باللغة العربية: علماً وقراءة وكتابة ومحادثة، ونظراً في أدب العرب نثراً وشعراً، وفي نظم القرآن مبنى ومعنىً.
والدعاة اليوم هم أحوج ما يكونون لهذا ولا يُعذرون بالقصور فيه.
هـ- ولقد جاء القرآن بتأكيد الفصاحة وسلامة النطق.
وذلك عندما قال الله -تعالى- على لسان موسى -عليه السلام- (في سورة طه): {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي}(طه: 27 - 28). فقد علم موسى عليه السلام أن سلامة النطق وفصاحته من أسباب البلاغ وإقامة الحجة، قال الرازي (في التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب): «اختلفوا في أنه عليه السلام لِمَ طلب حل تلك العقدة؟ على وجوه»:
أحدها: لئلا يقع في أداء رسالته خلل البتة.
وثانيها: لإزالة التنفير؛ لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه.
ثم قال ورابعها: طلب السهولة؛ لأن إيراد مثل هذه الكلام على مثل فرعون في جبروته وكِبْره عَسِر جداً، فإذا انضم إليه تَعُّقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية، فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفاً وتسهيلاً.
ويستفاد من هذه القاعدة أن على الداعية أن يُعوِّد نفسه على النطق الصحيح، وإذا كانت في لسانه عقدة؛ فليستعن بمن يفصح عنه، ويساعده في مهمته، وذلك كي يصل بدعوته إلى درجة البلاغ والبيان، وهذا ما سأل موسى -عليه السلام- ربه سبحانه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (القصص: 34).
والرِّدْءُ: اسم ما يستعان به. قال الرازي في تفسير هذه الآية : (ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار، فهذا هو التصديق المفيد، ألا ترى إلى قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} وفائدة الفصاحة تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله: صدقت).
و- ومما يساعد الداعية على البيان والبلاغ وجود إخوانه معه إلى جانبه، فإن وجودهم يشد من عضده، ويلقي في روعه الطمأنينة من جهة، ومن جهة أخرى فإن وقع ذلك على المدعوين كبير؛ إذ عندما يرى المدعوون أن الداعية ليس وحيداً وأن معه أنصاراً وأعواناً فإنهم يلاحظون أثر الدعوة في الناس ويحملهم هذا على إمعان الفكر في هذه الدعوة.
قال تعالى مخاطباً موسى عليه السلام: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (القصص:35)، وقال على لسان موسى أيضاً {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي { 29 } هَارُونَ أَخِي { 30 } اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي { 31 } وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } (طه: 29-32)، قال الرازي في تفسيره لهذه الآية: «واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المُعين، أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الودِّ وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله، ولذلك قال عيسى عليه السلام: {قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله} (الصف: 14)، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (الأنفال: 64).
لاتوجد تعليقات