فقه الحديث بين الإفراط والتفريط: كلمة موجزة
يمثل الحديث النبوي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، والمنهاج المفصل والمبين للقرآن؛ مما يوجب علينا أن نعرف كيف نحسن فهمه، وكيف نتعامل معه فقها وسلوكا، إيمانا والتزاما، دعوة وتعليما، كما تعامل معه خير أجيال هذه الأمة- الصحابة ومن تبعهم بإحسان- الذين تعلموا على يدي سيد الأنام، فأحسنوا التعلم، ثم عملوا بما تعلموا فأحسنوا العمل، ثم علموا الأمم فأحسنوا التعليم.
إن أزمة المسلمين الأولى في هذا العصر هي أزمة فهم.
والفهم هو الذي يحدد فكر الإنسان وتصوره، ويرسم طريقه، ثم تأتي الحركة والعمل وفقا لهذا التصور. وأوضح ما تتمثل فيه أزمة الفهم هذه هي أزمة فهم الحديث النبوي والتعامل معه.
صحيح أن السنة قد حُسمت من جهة التدوين والتصنيف غاية الحسم، إلا أنها أوتيت في زماننا من جانب الفقه والفهم؛ إذ تفتأ تظهر على ألسنة الناس وكتاباتهم ودروسهم فهوم مبنية على الحديث الواحد، لا يراعى فيه ناسخ من منسوخ، ولا مطلق من مقيد، ولا خاص من عام، ولا دراية بطرق الجمع بين ما صح من نصوص السنة، ولا علم بما كان تشريعا من سنة رسول الله [ وما لم يكن كذلك، ولا فهم للغة الحديث ومصطلحاته بأدوات اللغة وشواهدها، ولا علم بأسباب ورود كثير من نصوص السنة، ولا علم بكيفية عرض العلماء لنصوص السنة على القرآن، ولا كيف تشرح نصوص السنة بعضها، ولا علم بأقوال الصحابة والتابعين وسلف الأمة من فطاحل فقهاء الحديث وتوجيهاتهم وتأويلاتهم المبنية على سعة من المعرفة وورع من سوء التأويل.
إن قضية منهجية فهم نصوص السنة النبوية تعد إحدى مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر، وتتمثل مظاهرها جلية عند طائفتين من الدارسين للعلوم الشرعية:
- الطائفة الأولى: تنهج منهجا يتسم بالغلو في التمسك بالظاهر.
- الطائفة الثانية: تنهج منهجا يتسم بالتساهل في التمسك بنصوص السنة مع فهم خاص لمقاصد الشريعة لا يتعدى الأمور الدنيوية فقط.
فكثيرا ما أوتي هؤلاء أو هؤلاء من جهة سوء الفهم للأحاديث، والنظر إليها نظرة قاصرة تكاد تحصرها في بعض المظاهر فقط، أو تتوسع بها لتشمل ما لم يقصده الشارع الحكيم. هذا ناهيك عن بعض الفهوم التي تزعمها من قصدوا -ابتداء- هدم الدين والإحاطة به من خلال مناداتهم بقراءة النصوص الشرعية قراءة جديدة بعيدة عن قوانين التأويل المتمثلة في طرق الاستنباط بقواعدها اللغوية والشرعية، مع نزع القداسة عن نصوص الوحي -كتابا وسنة-؛ مما سيؤدي إلى لا نهائية المعنى، ونسف محتوى النص، وإبطال مقصوده.
إن ما نتعلمه في المداخل إلى العلوم كأصول الفقه ومصطلح الحديث وأصول التفسير وسائر العلوم المساعدة من علوم اللغة وغيرها، كل ذلك وسيلة إلى معرفة مراد الله -تعالى- ومراد رسوله [، ومعرفة الفقه الذي من أجله أنشأ العلماء القواعد، وأصلوا الأصول التي تصوب النظرة إلى نصوص الوحيين، وتجعل الفهم سديدا مستقيما غير منحرف.
فبعد توقف الوحي والتصويب من السماء صار لابد من حراسة مدلولات النص وحماية فقهه الصحيح، وتجديد فهمه بحسب الظروف والأحوال من البشر أنفسهم؛ فالتحريف المتأتي من التلاعب باللفظ بات أمرا مكشوفا، لكن الإشكالية الكبيرة اليوم هي في التحريف الأخطر: التأويل الفاسد والخروج بالمعنى عما وضع اللفظ له(1).
فلا بد إذا للاجتهاد في فقه الحديث وفهم معانيه واستنباط حكمه وأحكامه من دربة ومراس وضوابط وقواعد؛ حتى لا يزيغ الفقيه عن الفهم السديد والفقه الرشيد، وهذا ما يبرز أهمية فقه الحديث، ولله دَرُّ ابن القيم رحمه الله؛ إذ قال في إعلامه: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة»(2).
وقال في كتابه الروح: «ينبغي أن يفهم عن الرسول مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، وقد حصل -بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب- ما لا يعلمه إلا الله؛ بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد..» (3).
إنه لمن الضروري الاحتكام إلى منهجية توجه قراءة النص الحديثي، وتضبط مساره فهما وتفسيرا، شرحا وتأويلا، تفعيلا وتنزيلا، وتحمي الأحاديث من أن تكون مجالا للتزيد والإقحام، أو العبث واللهو، وتمكن من الفهم الصحيح لمقاصده.
ولا يتصور حصول ذلك إلا بانتهاج أسلوب الدراسة الموضوعية لفقه الحديث، وذلك بتحديد موضوع معين يكون محل إشكال علمي، فتحصى جميع النصوص الواردة فيه إحصاء تاما، ثم تدرس دراسة نقدية لبيان أحكامها من الصحة والضعف، ثم بعد ذلك تنصب عليها الدراسة الفقهية باعتماد المناهج العلمية الأصولية – لضبط وتقنين الفهوم – والتعارضات والترجيحات، للخلوص في النهاية إلى أحكام سليمة شاملة(4). وهذا منهج العلماء الراسخين كما سماهم الشاطبي -رحمه الله-(5) الذين جمعوا بين الظواهر والمعاني في اعتدال، وألغوا المعاني المعقولة إذا خالفت النص.
لقد عرف هذا القرن نهضة حديثية مباركة قامت على سواعد جمع من العلماء الأجلاء، منهم أصحاب مدارس حديثية أحيت في الأمة علوم الحديث رواية ودراية، فعنت بهذا الفن عناية جليلة، تجلت في إخراج الكتب وطبعها واستنساخها، والتصنيف في علومه من حيث التصحيح والتضعيف، فكثر المشتغلون بهذا العلم والمعتنون بفنونه والمتخصصون في مباحثه، وتصاعدت أصوات تنادي بالعمل بالحديث ونبذ ما سواه من أقوال الرجال. إلا أنه خفي على كثير من هؤلاء أن صحة الحديث غير كافية؛ إذ لا بد من معرفة دلالته والوقوف على معناه وإدراك مقصد الشارع فيه، ورحم الله علي بن المديني؛ إذ قال: «التفقه في معنى الحديث نصف العلم ومعرفة الرجال نصف العلم»(6).
وهذا الفقه لا يتأتى إلا إذا كان مستندا إلى ضوابط وقواعد تسدد الفهم وتصوبه، فإن تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان معناه يعني الحكم بأن هذا المعنى هو ما قصده صلى الله عليه وسلم من كلامه، وهو الذي رام إبلاغه للسامع، فهو رواية عنه بالمعنى، وتوقيع عنه في أحكامه، وهذا أمر جلل لزم معه ضبط الفقه وتسديد الفهم.
من هنا تظهر أهمية وخطورة فقه الحديث وخطورته، فهو ثمرة الحديث وعلومه كلها، وبه قوام الشريعة، وقد عده الحاكم النيسابوري رحمه الله نوعا من أنواع علم الحديث، قال: «النوع العشرون من هذا العلم - بعد معرفة ما قدمنا ذكره من صحة الحديث إتقانا ومعرفة لا تقليدا وظنا – معرفة فقه الحديث؛ إذ هو ثمرة هذا العلم وبه قوام الشريعة»(7).
الهوامش:
1- ضوابط في فهم النص. عبد الكريم حامدي، كتاب الأمة. العدد: 108. ط1. رجب 1426هـ. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.
2- إعلام الموقعين عن رب العالمين. تحقيق: محيي الدين عبد الحميد. المكتبة العصرية بيروت. ط1: 1424هـ/ 2003م. ج1. ص: 70.
3- الروح، لابن القيم. دار الكتب العلمية بيروت. 1395هـ/ 1975م. ص: 62-63.
4- انظر: أبجديات في البحث في العلوم الشرعية.فريد الأنصاري. دار السلام. ط1: 1431هـ/ 2010م. ص: 200.
5- الموافقات في أصول الشريعة. شرح عبد الله دراز. ط2: مكة المكرمة 1395هـ/ 1975م. ص: 392.
6- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي. تحقيق: محمد عجاج الخطيب. دار الفكر. ط3: 1404هـ/ 1984م. ص: 320.
7- معرفة علوم الحديث.الحاكم النيسابوري. تحقيق: السيد معظم حسين.دار الكتب العلمية بروت. ط2: 1397هـ/ 1977م. ص: 63.
لاتوجد تعليقات