الحكمة ضالة المؤمن- ولينوا بأيدي إخوانكم
صلاة الجماعة مظهر من مظاهر العبودية لله تعالى، وصورة جميلة من صور تآخي المسلمين وترابطهم؛ حيث يجتمعون خمس مرات كل يوم وليلة لأداء فريضة الصلاة، وينتظمون في صفوف متراصة تتحد حركاتهم خلف إمام واحد، وتتجه أجسادهم إلى قبلة واحدة، وتتعلق قلوبهم بإله واحد، فهو موقف عظيم وصورة مؤثرة لمن اعتبرها وتفكر فيها.
وينغص على تلك الصورة الجميلة أحيانا تصرفات بعض المسلمين، فالمرء يعاني أحيانا من صنفين من المصلين، الأول: المفرط في أحكام تسوية الصفوف جهلا أو تجاهلا، والثاني: الفظ الغليظ الذي يريد تطبيق السنة ولكن بصورة منفرة وطريقة مزعجة.
والمتأمل فيما ورد من الحث على تسوية الصفوف ترغيبا وترهيبا، يجد العلم والحلم، فيرى التوجيه النبوي الرفيق، والتطبيق العملي الأنيق؛ حيث يتجلى الحرص على تطبيق السنة بكل دقة، مع البعد عن إيذاء المصلين بدنيا ونفسيا، والتشويش عليهم بعدم المبالاة أو بالغلظة والفظاظة.
فعن ابن عمر أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الصلاة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله». أخرجه أبو داود
فقوله: «أقيموا الصفوف» أي: عدلوها وسووها، وقوله: «وحاذوا بين المناكب» أي: اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له فتكون المناكب والأعناق والأقدام على سمت واحد، وقوله: «وسدوا الخلل» أي: الفرجة في الصفوف وقوله: «ولينوا» أي: كونوا لينين هينين منقادين، وقوله: «بأيدي إخوانكم» أي: إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم، حتى يستوي الصف لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، قال أبو داود: «ومعنى «ولينوا بأيدي إخوانكم»: إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف».
وقوله: «ولا تذروا» أي: لا تتركوا «فرجات الشيطان» أي: الجني والإنسي، وقوله: «ومن وصل صفا» أي: بالحضور فيه وسد الخلل منه «وصله الله» أي: برحمته «ومن قطعه» أي: بالغيبة ، أو بعدم السد ، أو بوضع شيء مانع «قطعه الله» أي: من رحمته الشاملة وعنايته الكاملة، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ.
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الهيّن اللّين في تسوية الصفوف فقال: «خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها».
قال الخطابي: معنى لين المنكب: لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها؛ لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، وقد يكون فيه وجه آخر وهو: أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان، بل يمكنه من ذلك، ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف، ويتكاتف الجموع».
ولأهمية الأمر فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم تسوية الصفوف من مكملات الصلاة، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة».
فتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد يراد بتسويتها أيضا سد الفرج فيها ، بناء على التسوية المعنوية، ولا خلاف في أن تسويتها بالمعنى الأول والثاني أمر مطلوب .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على تطبيق الصحابة لهذه السنة بنفسه فيتفقد صفوفهم قبل الصلاة كما قال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ناحية الصف ويسوي بين صدور القوم ومناكبهم ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه وصححه الألباني.
وقال النعمان بن بشير: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ, حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ, ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ, حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ, فَرَأَى رَجُلاً بَادِياً صَدْرُهُ, فَقَالَ: «عِبَادَ اللَّهِ, لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ».
قال النووي: قيل: معناه يمسخها ويحولها عن صورها لقوله صلى الله عليه وسلم : «يجعل الله تعالى صورته صورة حمار»، وقيل: يغير صفاتها، والأظهر - والله أعلم - أن معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال تغير وجه فلان عليَّ أي ظهر لي من وجهه كراهة لي وتغير قلبه علي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن.
وانظر إلى حرص الصحابة الكرام على حسن الامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم ، فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري»، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه، وفي السنن قال النعمان: «فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه».
قال ابن حجر: «وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته».
وأختم بنصيحة لمن يؤذي المصلين بمزاحمتهم في الصفوف المقدمة، ويتسبب بإضاعة خشوعهم لمضايقته لهم في الصف، أو يجر المصلي إلى جنبه بفظاظة وغلظة، أو يوسع لنفسه مكانا في الصف ولو ضيق على الآخرين، أهمس في أذنه قائلا: إذا أردت فضل الصف المقدم فاحرص على الحضور مبكرا، لأن التبكير مستحب، والتأخر مذموم فقد قال صلى الله عليه وسلم : «ولا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ». أي: لا يزال قوم يعتادون التأخر عن الصف الأول، أو عن الصفوف الأولى حتى يعاقبهم الله تعالى فيؤخرهم.
وقال الشيخ ابن عثيمين: «يخشى على الإنسان إذا عود نفسه التأخر في العبادة أن يبتلى بأن يؤخره الله عز وجل في جميع مواطن الخير».
وإذا أردت فضل الصف المقدم - وهو أمر مستحب - فلا تقع في الحرام أو المكروه لتحقيق ذلك المستحب، فإيذاء الناس ممنوع شرعا كما قال صلى الله عليه وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين»، وقال أيضا: «والله يكره أذى المؤمن».
قال الشيخ ابن عثيمين: «إيذاء المسلمين محرم، وأنواع الأذى كثيرة منها أن يؤذي جاره ، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال - وإن لم يكن بينهم صداقة - بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
وأي أذى أكثر من مضايقة المصلي حتى لا يخشع في صلاته ويظل يحصي الدقائق والثواني حتى يحرر نفسه من ذلك الضيق والأذى الذي سببه ذلك المتأخر ممن يريد أن ينال فضل المبكر.
فالمسلم يوازن بين الأمور، ويرجح ما كان أفضل وأقرب إلى الله دون تضييع حقوق الله تعالى ولا إيذاء الخلق، وسبيل ذلك بالتعلم والتفقه في الدين، وترك الأنانية، ومراعاة الآخرين، وبالله التوفيق.
لاتوجد تعليقات