تونس: جدوى قانون تحصين الثورة
تشهد تونس جدلا متواصلا حول جدوى مشروع قانون لتحصين الثورة، بين ثلاثة أطراف أحدها يراه عقيما، ويهدف لإقصاء تونسيين من الحياة السياسية لفترة زمنية محددة، وبين من يراه ضروريا لقطع الطريق على من يسعون لاستعادة امتيازاتهم السابقة في منظومة الفساد، بل إعادة الاستبداد للحكم مجددا بوجوه جديدة مستغلة أجواء الحرية التي تعد من أكبر هبات الله للتونسيين عبرالثورة. وبين من يرى أن القانون لن يفيد أي طرف؛ لأن المعنيين به لن يترشحوا للانتخابات بمحض إرادتهم لأنهم يدركون أنهم لن يفوزوا فيها، ولن يحصلوا على أي مقاعد في البرلمان القادم، فضلا عن التشكيلة الحكومية التي ستفرزها.
ويهدف المشروع إلى «إرساء التدابير الضرورية لتحصين الثورة؛ تفاديا للالتفاف عليها من قبل الفاعلين في النظام السابق» وأن الفاعلين «في النظام السابق المشمولين بالتدابير الهادفة لتحصين الثورة هم كل من تولى في الفترة بين 2 أبريل 1989 م و14 يناير 2011 م في الدولة أو في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، منصب رئيس وزراء أو وزير أو كاتب دولة أو مدير أو عضو بديوان رئيس الجمهورية، أو مدير ديوان رئيس مجلس النواب (البرلمان)، أو مرشح للحزب المذكور لعضوية مجلس النواب، أو رئيس مجلس بلدي كذلك مدير إدارة أمن الدولة أو مدير فرقة الإرشاد على المستوى الوطني، أو رئيس لفرقتها الجهوية أو مدير الفرقة المختصة على المستوى الوطني، أورئيس لفرقتها الجهوية أو رئيس أوأمين عام مساعد أو عضو بالديوان السياسي أو اللجنة المركزية أو كاتب عام أو عضو لجنة تنسيق، أو كاتب عام أو عضو جامعة ترابية أو مهنية أو رئيس أو عضو الهيكل المركزي أورئيس الهيكل الجهوي لمنظمة الشباب الدستوري الديمقراطي، المنحل أو منظمة طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي، وكل من ناشد زين العابدين بن علي للترشح لانتخابات 2014 م، ولا يجوز لأي ممن وردت صفاتهم بالقائمة النهائية الترشح ولمدة 10 سنوات لمنصب رئيس الجمهورية، أو عضوية مجلس الشعب، أوعضوية رئاسة المجالس البلدية، أوأي مجالس لها صفة الجماعات العمومية إضافة لمناصب أخرى.
وينص مشروع القانون على منع من تحملوا مسؤوليات سياسية في النظام السابق، أوشاركوا في جرائم النهب والسرقة التي عرفتها تونس على مدى 55 سنة، أسهموا من مواقعهم المختلفة في استمرار نظام الفساد والاستبداد.وفي الغالب فإن هذه الأصناف الثلاثة كانت أقانيم النظام السابق، وقد تداخلت مسؤولياتها وفق الترتيب الآنف، أي هناك (وهم الأغلبية) من شارك في النهب والفساد، وساهموا في استمرار منظومة الفساد والإفساد، وتحملوا مسؤوليات سياسية في الوقت نفسه.
وقد تعددت الرؤى في هذا الخصوص، بين فرز جميع من كانت لهم علاقة تبادل مصالح مع النظام، وبين الاقتصارعلى نسبة منهم ولا سيما أولئك الذين انخرطوا فيما عرف بخطط تجفيف الينابيع (ثقافيا وسياسيا) والمتورطون في الفساد، والمساهمون بأقلامهم في التغطية على استبداد النظام السابق، والمناشدين للمخلوع بن علي للبقاء في السلطة، إلى نوع من الحكم مدى الحياة، من خلال التمديد المستمر.
والحقيقة هي أن حصول اطمئنان شعبي على عدم عودة رموز الماضي، بطرق ملتوية من خلال المال الفاسد، وشراء الذمم كما تعودوا، وكما يفعلون حاليا مع ضعاف النفوس من العاملين في المجال الإعلامي، وفي الإدارة أوما يعرف بالدولة العميقة، حيث إن هناك أدلة على تورط جزء من الإدارة ومن العاملين في مؤسسات الدولة المختلفة ماعدا الجيش، وفي وسائل الإعلام مع رموزالعهد البائد، واستهدافهم جميعا للثورة وما أفرزته من موازين قوى على مختلف المجالات. وشعورهم بالخطر من استمرار الثورة في تحقيق أهدافها، والتربص بها إلى درجة تغذية نزعات القبلية، وافتعال أزمات أمنية، والتشجيع على الإضرابات، والاعتصامات، والإسهام في تهريب السلع خارج الحدود (ليبيا والجزائر) لتغذية مؤشر ارتفاع الأسعار من جهة والتشهير به إعلاميا من جهة أخرى.
لهذه الأسباب كان قانون تحصين الثورة ضروريا؛ حتى تنجح الثورة التونسية، وتحقق أهدافها التي حلمت بها أجيال متعاقبة، وأصبحت حقيقة واقعة في أقل من شهر (17 ديسمبر 2010 / 114 يناير 2011 م). وهي نتيجة طبيعية لتراكمات نضالية، جذورها تمتد لما قبل الاستقلال المغشوش، وخاصة فترة الحزب الحر الدستوري، بزعامة الشيخ عبدالعزيز الثعالبي (1876/ 1944 م).غير أن المهتمين بهذا الشأن يرون بأن قانون العدالة الانتقالية، مقدم على قانون تحصين الثورة؛ لأنه سيكون الإطار الذي يتنزل فيه قانون حماية الثورة وتحصينها، والقطع مع الاستبداد إلى الأبد بعون الله وتوفيقه.
وقد حرصت السلطات الحاكمة، وتحديدا حزب حركة النهضة، على أن يحظى قانون تحصين الثورة، على كم هائل من المؤيدين في الداخل والخارج، حتى لا يكون ذريعة للطعن، أوالسمسرة الدولية والتدخلات الخارجية، ومن ذلك استحضار القوانين المماثلة التي صدرت في دول أوربا الشرقية، أوالبرتغال، والمغرب، والقيام باستشارة قانونية في الداخل والخارج ولا سيما المنظمات الدولية المعنية بالحريات وحقوق الانسان، سواء كانت منظمة العفوالدولية، أم لجنة حقوق الإنسان التابعة للامم المتحدة، أم المنظمات غيرالحكومية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم.
ويبدو أن ردود الأفعال إيجابية حيال هذا المشروع المهم للثورة التونسية ومستقبلها، لا سيما وأن القانون يؤكد على أن المعنيين به لا يمكن أن يشملهم، بدون توفر الأدلة المادية على مسؤوليته في صلب النظام المخلوع، فضلا عن دوره في الفساد والإفساد، أوتقديمه الدعم للنظام المنهار بأي شكل من الأشكال، وذلك عن قناعة وطواعية وليسوا مجبورين عليها.
وستمرر تلك الأدلة المادية للقضاء؛ ليقول فيها كلمته، مع حق المعنيين في التظلم، وهو ما ينفي الصبغة الانتقامية، أوالانتقائية للقانون، لا سيما وأن المعنيين لا تتعدى نسبتهم 2 في المائة من المنخرطين في النظام السابق والمتعاونين معه، وهو ما يثير حفيظة الكثير من أبناء الشعب الذين اكتووا بسفالة أغلب الذين انتسبوا للنظام السابق، وإن كان الكثير منهم لم يتورطوا في جرائم نهب وتعذيب؛ فإنهم قاموا بدورهم في المراقبة والوشاية بأبناء الشعب مما أردى الكثير من المناضلين في أوتون الجحيم النوفمبري (نسبة لانقلاب 7 نوفمبر 1987 م والذي أطاح بالمخلوع بورقيبة على يد المخلوع بن علي) ولذلك يرى البعض أن القانون في حالة اقتصاره على 2٪ فقط من المنخرطين في النظام السابق تسطيح للقانون، ومقدمة لافلات الآلاف من الوشائيين والمخبرين المعروفين والسريين من العقاب.
ويحاول بعض السماسرة على المستويين الاعلامي والسياسي التهوين من حجية وفاعلية قانون تحصين الثورة، تارة بالزعم أن القانون سيظهر المعنيين بشكل ضحايا، وبالتالي سيتعاطف الشعب معهم، وهو غير صحيح؛ لأن وضع حزب حركة النهضة مختلف عن غيره من الأحزاب والشخصيات، من جهة، ثم لإدراك الشعب بأن المعزولين هم محرمون أصلا، وقد خبرهم على مدى 55 سنة. وبالتالي لن يحصوا أبدا على صورة المظلوم في نظر الشعب، إذا استثنينا الذين كانوا يتعاملون معهم واستفادوا من ثروات البلاد بطرق غير شرعية كما استفادوا.
مثال آخر يضربه السماسرة ومن يطلقون البالونات الحرارية لإجهاض فاعلية قانون تحصين الثورة، هو قولهم: إن حزب نداء تونس، الذي يتزعمه الباجي قايد السبسي، الذي ينكرعروبة تونس، لأنه في الأصل ليس تونسيا، لن يضره قانون تحصين الثورة، وإنما الأحزاب الأخرى المنبثقة عن حزب التجمع المنحل، مثل حزب الوطن، والمبادرة، بينما الحقيقة هي أن الجميع سيتضررون، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القانون لم يوضع لتصفية حسابات سياسية، وإنما كإجراء مبدئي لحماية الثورة، بقطع النظر عمن سيتضرر منه ومن سيربح، وهذا ما يخفى على الكثيرين، أولا يريدون استيعابه، أويعرفون ويحاولون التفيقه والتعتيم والتضليل الإعلامي والسياسي.
ويبدو أن السلطة ولا سيما حزب حركة النهضة، مصر على تمرير القانون، وفق ما أكده القيادي في النهضة وعضو المجلس الوطني التأسيسي، وليد البناني» قانون تحصين الثورة لن نتنازل عنه، وهو ليس مشروع النهضة لوحدها، بل هو مشروع 5 كتل نيابية داخل المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) ونواب مستقلين»،وأوضح بأن لا أحد فوق القانون، والقانون سيطبق على الجميع ونحن لسنا ضد أحزاب؛ وإنما القانون ضد مسؤولين في نظام أطاحت به الثورة، وسينفذ دون استثناءات».
ومع ذلك يحذ بعضهم من الأحزاب المنبثقة عن التجمع والتي تدعمها العشرات من الشخصيات التي كانت في الصفوف الأولى لقيادات حزب التجمع، المنحل، كما يوجدون في عدد من الأحزاب الأخرى بما فيها بعض أحزاب الترويكة، وتحديدا حزب التكتل من أجل العمل والحريات، بل في المجلس الوطني التأسيسي، من كانت لهم علاقات مع النظام السابق، وخدموه في مراحل تاريخية معينة، رغم علمهم بعدم شرعيته، وباستبداده وفساده. ووجود بعض من تدور حولهم شبهات العلاقة مع النظام السابق في مراكز حساسة في الدولة اليوم، ولكن القائمين على قانون تحصين الثورة يؤكدون بأن القانون سيشمل الجميع ولن تكون فيه استثناءات.
ويعتقد بعضهم أن من سيفلتون من قانون تحصين الثورة، سيتلقون الدعم ممن سيشملهم القانون، وسيواصلون عملية شراء الذمم واستغلال نفوذهم في الإدارة الميدانية، وهي أهم من الإدارة المكتبية التي يمثلها الوزراء، والولاة (المحافظون) والعتمدون، والعمد (التراتيب الإدارية للسلطة) وهم الذين توجه لهم أصابع الاتهام بتعطيل سرعة إنجاز المشاريع لميزانيتي 2012 و2013 م. وهو ما يحتاج لثورة إدارية قد لا تسعف الظروف الحالية (من وقت وقوانين وموازين قوى)، دعاتها في الوقت الراهن للقيام بها.
لاتوجد تعليقات