الحكمـة ضالـة المؤمن-المجـالــس بالأمـانـة
حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم ، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه، ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم : «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
ويبين العلماء أن معنى الحديث : تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال ، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه.
وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهو أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال شراح الحديث: «والمعنى: إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني،أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب منه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين؛ فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة .
قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
قال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فَأْتِنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ، إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا».قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ : فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
فخلاصة القول: أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.
لاتوجد تعليقات