المالكي يواجه أكبر مأزق منذ وصوله للسلطة-انتفاضة الأنبار تسدد رصاصة الرحمة على الحكم الطائفي بالعراق
الدعم الإقليمي والتطورات في سوريا وتجربة الجيش الحر تهدد بانتقال السيناريو لبلاد الرافدين
سقوط المالكي لا يعني نهاية تهميش السنة في ظل الدعم الأمريكي والإيراني للمعادلة السياسية
مرجعيات طائفية تطالب المالكي بحلول وسط خوفًا من مواجهة السيناريو الأسود
الربيع العربي أفشل مخطط المالكي لتدشين ديكتاتورية مستقرة
تحديد البرلمان العراقي لولايتين فقط للرئاسات يفاقم الضغوط على دولة القانون
لا تشير المواقف التي يتبناها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى اقتراب انفراج الأوضاع الأمنية والسياسية في عدد من المحافظات العراقية ذات الأغلبية السنية ولا سيما أن المالكي لم يترفع عن النهج الطائفي في التعامل مع الأزمة منذ بدايتها حتى الآن، بل إنه رد بخطوات ترقيعية حينما أعلن موافقته على الإفراج عن المعتقلين والبحث في تسوية أزمتهم وقانون الإرهاب وغيرها، بل إن هذه الحلول كشفت عن سيطرة النهج الطائفي للمالكي وإصراره على التعامل مع جميع مشكلات العراق وفق هذا النهج ووفق مصلحة طائفية دون الوضع في الاعتبار مصلحة البلاد العليا.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه أن الحلول الترقيعية التي لجأ إليها المالكي لن تسمح له بتهدئة الأوضاع بل سترفع من سقف طموحات المتظاهرين للمطالبة بتغيير طبيعة العملية السياسية في العراق برمتها؛ فالعراقيون لم يهبوا في وجه المالكي اعتراضًا على غلاء وغياب خدمات بل كانت انتفاضة ضد الظلم والتهميش والحيف الذي وقع ضدهم منذ سيطرة الحكم الطائفي المؤيد من إيران والولايات المتحدة الأمريكية وضد إنهاء سطوة الطرفين على الساحة العراقية والعودة بالعراق إلى محيطه العربي.
ومما يزيد من تعقيد الأزمة أن الظروف والمتغيرات التي تمر بها المنطقة بداية من الربيع العربي وتصاعد الأحداث في سوريا والاستفادة من تجربة الجيش الوطني الحر قد هددت بقوة مساعي المالكي لفرض ديكتاتورية طائفية مسيطرة، إلا أن الأحداث التي شهدتها الأنبار ونينوى وديالى وغيرها من المحافظات العراقية سددت رصاصة الرحمة على هذه المساعي التي لم يكتب لها النجاح كونها اصطدمت بواقع جيوسياسي عراقي شديد التعقيد، فالعراق يبدو أكبر من أن يحكمه المالكي منفردًا خصوصًا أن الأخير لم يتمتع بخبرة سياسية كافية ولا ببعد نظر يمكنه من تحقيق طموحاته.
ولعل قتامة المشهد السياسي العراقي تضع مصير البلاد على المحك ولا سيما أن المحيط العراقي من دول الجوار السنية لا يبدو مرتاحًا لاستمرار الحكم الطائفي في العراق، بل إنه يدفع في إطار التصعيد وذلك لإنهاء أكثر من 11 عامًا من الظلم والتهميش والتصفية التي لحقت بالسنة العرب؛ لذا فلا ضير من ممارسة أقصى نوع من الضغوط على المالكي لإجباره على تفكيك منظومة الحكم الطائفي في العراق حتى لو وصل الأمر لاستمرار الصراع حتى الإطاحة بالمالكي.
وأد الفتنة
وقد دفعت هذه الأزمة عددا من المرجعيات الشيعية العراقية لمطالبة المالكي بالاستجابة لمطالب المتظاهرين ووأد الفتنة لاعتقادهم بأنهم عاجزون عن الإطاحة بالمالكي باعتبار أن غيابه عن الساحة سيقترن بغروب شمس الهيمنة الشيعية على الساحة السياسية العراقية، وهو ما يفرض دخول هذه الأطراف بقوة على خطى الأزمة وفرض حل وسط على طرفي الصراع، كون خيار تقسيم العراق لن يصب في صالح سكان الإقليم الجنوبي الذي يجاور دولا ذات أغلبية سنية كاسحة ومن ثم سيفقد هذا الكيان أي دعم أو قابلية للحياة بشكل قوي.
وتخشى المرجعيات الشيعية من أن الرهان على الحل الأمني من قبل المالكي قد يقود العراق للنفق المظلم ويضع البلاد على أعتاب الحرب الأهلية ولا سيما أن مأساة الجمعة قبل الماضية قد دفعت سنته إلى التخلي عن المرونة وتبني مواقف متشددة ظهرت على لسان الشيخ عبد المالك السعدي أحد أهم المرجعيات الدينية في العراق حيث دعا إلى انسحاب جماعي من العملية السياسية في العراق لعزل المالكي متهمًا الأخير بإدارة مخطط ضد العراقيين دبره أسياده بليل لتأصيل الطائفية والكراهية بين العراقيين، ردًا على قيام الجيش العراقي بإطلاق الرصاص على المتظاهرين في مدينة الفلوجة بشكل خلف قتلى وجرحى، بل إن السعدي وصل إلى مطالبته الجيش العراقي بالدفاع عن المتظاهرين وخوض الحرب ضد هذه الحكومة الطائفية.
طريق مسدود
ومن المهم الإشارة إلى أن دعوة السعدي ستجد آذانًا مصغية لدى أطراف العملية السياسية في العراق في ظل وصول علاقة المالكي بأغلب هذه الأطراف لطريق مسدود ومنها القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي التي طالبت مرارًا الائتلاف الوطني العراقي بترشيح بديل للمالكي وهو أمر لن يجد معارضة من التحالف الكردستاني والأحزاب السنية العربية المستاءة بشدة من ممارسات المالكي.
ولا يتوقف الغضب على خصوم المالكي، بل إن المقربين منه يدركون أنه يلعب بالنار، وأن لجوءه للتصعيد العسكري ضد المتظاهرين يعكس رغبته في توريطهم في هذه الأحداث وإحراجهم عبر مطالبتهم بتحمل مسؤوليتهم المذهبية تجاه قواعدهم ودفعهم كذلك لتأييده حفاظًا على مشروعه السياسي والمذهبي، رغم أن هذا النهج يهدد بعودة الحرب الأهلية للعراق والعودة به إلى نقطة الصفر وإلى الحقبة الطائفية السوداء عقب تفجير مرقدي الهادي والعسكري في 2005، وهو أمر يحذره الساسة الموالون للمالكي بشدة بشكل سيجعلهم يمارسون أقصى نوع من الضغوط عليه للتراجع بدلاً من مواجهة سيناريو أسود.
تأييد الانتفاضة
غير أن موقف المالكي زاد سوءا خلال الأيام القليلة الماضية بحسب الدكتور جمال سلامة أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس؛ حيث رأى أن انعقاد مؤتمر لنصرة الشعب العراقي في تركيا قد أكد أن الدعم التركي لمتظاهري العراق لم يتوقف عند الدعم السياسي فقط، بل وصل إلى مرحلة من التأييد الفعلي للانتفاضة ضد الحكم الطائفي، فضلاً عن أن تدشين جبهة إنقاذ وتحرير العراق سيوفر نوعًا من الغطاء السياسي للتظاهرات ويرفع من سقفها.
وأشار إلى أن دخول تركيا على خط الأزمة يعكس رغبة أنقرة في منع إيران من الاستحواذ الكامل على الساحة العراقية واستخدامها للحفاظ على مصالحها ولا سيما أن إيران ستدعم المالكي دعماً مضاعفاً لبشار الأسد الذي يواجه أيامًا صعبة باعتباره آخر معقل لها في المنطقة.
ولفت إلى أن الصعوبات زادت على المالكي بعد سن البرلمان العراقي تشريعًا يمنع أصحاب الرئاسات الثلاث في العراق «الجمهورية والوزراء والنواب» من الترشح لولاية ثالثة، وهو ما يعني أن المالكي سيواجه صعوبة شديدة في الاستمرار في منصبه رغم محاولة نواب دولة القانون التشكيك في أهلية البرلمان لإصدار مثل هذا القرار.
ولا يخفي د. سلامة مخاوفه الشديدة من أن تسمح مواقف المالكي المتصلبة لعدد من مقاتلي تنظيم القاعدة الذين واجهوا صعوبات شديدة خلال الأعوام الماضية باسترداد أرضيتهم في العراق مستفيدين من حالة الغليان الشعبي من حكومة المالكي ونهجها الطائفي.
وليس أدل على قتامة المشهد السياسي في العراق من تأكيد أحد أقطاب دولة القانون في البرلمان العراقي جواد النزوي أن تقسيم العراق يقدم حلاً نموذجيًا لمشكلات هذه البلاد، بل وإنه وصل لمنحنى أكثر تعقيدًا بدعوة الجنوبيين المقيمين في محافظتي نينوى وكركوك للعودة إلى مسقط رأسهم، وهو تصريح فهم منه رغبة ائتلاف المالكي في إثارة فزاعة العراقيين من خيار التقسيم ولا سيما مع اقتران التصريح بالتحذير من خطورة تبني المتظاهرين أجندات خارجية تعمل على تكريس التقسيم وكأنه يحاول شن حرب نفسية على من دفعوا لواء التمرد في وجه الحكم الطائفي وتحميلهم مسؤولية سيناريو يخطط له سادة المالكي ليل نهار في عواصمهم.
إقليم سني
ومع هذا فإن هذا الحديث لن يجد آذانًا مصغية لدى المتظاهرين الذين تراجعوا خلال الأيام الأولى للتظاهرات والمطالبة بوجود إقليم سني في وسط العراق بعد تشديد مرجعياتهم على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق، وهو أمر يكشف عن مسعى للحفاظ على وحدة البلاد ممن سخر نفسه وحلفاءه لخدمة مخطط سادته في طهران لتفتيت العراق.
ورغم الصعوبات التي تواجه المنتفضين ضد حكم المالكي إلا أن هذه التظاهرات حققت نتائج إيجابية في أيامها الأولى، أهمها تسديد رصاصة الرحمة على الحكم الطائفي ووضع مصير نوري المالكي على المحك وإفشال كل مساعيه لتكريس نوع من الديكتاتورية المستقرة رغم أن المنطقة تشهد تفكيكًا للمنظومة الديكتاتورية، بل إن هذه الثورة وضعت أمام المالكي خيارين على المدى الواسع وهما الرحيل بإرادته عن السلطة أو أن يسقطه المنتفضون ولا سيما أن هناك تفاؤلاً بانتقال هذه المعركة إلى بغداد قريبًا في ظل ما تحظى به التظاهرات من دعم خليجي غير مسبوق لا يريد نهاية لهذه الأزمة إلا بانتزاع أكبر قدر من التنازلات تنهي عقود التهميش ضد سنة العراق.
ومع النتائج الإيجابية التي حققتها هذه الانتفاضة لا يبدي الكثيرون تفاؤلاً بقدرة هذه الانتفاضة على تحقيق انفراجة كاملة في أوضاع سنة العراق كما يرى السفير عبد الله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري السابق، حيث يرى أن سقوط المالكي حتى إن كان نتيجة للانتفاضة قد لا يحقق للسنة العرب ما يصبون إليه، فهناك جهات في العراق لا ترحب كثيرًا بسقوط المنظومة الحالية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وروسيا حيث يرغبون في استمرار المعادلة حاليًا بالمالكي أو بدونه.
ومع هذا فإن استمرار هذه الانتفاضة سيسقط هذه الصفحة السوداء من تاريخ العراق ويفتح الباب أمام انفراجة سياسية يتوارى معها الحكم الطائفي ولو نسبيًا من صدارة المشهد ويفتح الباب أمام استعادة السنة العرب لأوضاعهم.
ونبه إلى أهمية وجود تحالف سياسي قوي يضم السنة والأكراد وبعض الرافضين لهيمنة المالكي على القائمة العراقية، يضغط بشدة على الانسحاب من العملية السياسية ويضع المالكي في الزاوية ويجعل استمراره في السلطة محل شك كبير مع أهمية استمرار الدعم العربي والإقليمي لهذه الانتفاضة التي تبقى المحاولة الأهم لعودة العراق إلى محيطه العربي ولو نسبيًا والعمل على تفكيك الحكم الطائفي.
لاتوجد تعليقات