كوسوفا.. بقيةٌ من أندلسٍ استعصت على الغزاة
امتدت الأمة في تاريخها الحافل بالانتصارات إلى أرض البلقان لتشع بنور التوحيد على عقول وقلوب الكوسوفيين الألبان عن طريق طلائع من التجار العرب الذين بنوا لهم مسجدا باقية آثاره في إقليم دراقاش إلى أن وصل الفاتحون العثمانيون في القرن الخامس عشر لتتوسع دائرة انتشار الإسلام حتى يدخل كل بيت ويستهوي نخوة كل نفس ويداعب مشاعرها، فسرعان ما يتحول المدعوّون إلى دعاة مجاهدين لنشر الإسلام جنبا إلى جنب مع القادة العثمانيين وبذلك صاغوا ملاحم كبرى ضد الصرب وقوى الأرثوذوكس لا يزال التاريخ يذكرها في حماسة تُشعِر بالنخوة والاعتزاز.
ولقد رسم الإسلام في حياة ذلك الشعب الأبي فسيفساء من الجمال تراكمت آثارها عبر التاريخ لتؤثر في نمط حياتهم الاجتماعية، وتركيبة نفوسهم الأبية، وتعانقت مع ما وهبهم الله من طبيعة خلابة لترسم في مخيلة كل زائر مزيجاً من المشاعر الخاصة التي تنفرد بها كوسوفا عن غيرها من البلاد، توحي بالولاء لهذه الأمة في توحيدها لخالقها وطريقة حياتها التي لا تشبه إلا بلاد المشرق الإسلامي على الرغم من اختلاف بيئتها وانتصابها بعزة وسط فجّ أوروبي عميق.
وليس لواصف أن يكتمل وصفه دون أن يشير مجازا إلى أنها بقية من أندلس استعصت على الغزاة النصارى وعلى جحافل الإلحاد الذي سلطوه على تلك البلاد أزمنة طويلة، في غفلة من الأمة وسهو من رجالها ومصلحيها، لتفتح اليوم العيون بعد السبات وتتحرر العقول من الغفلة لترى بلدا صغيرا معتزا بإسلامه، يقاوم أن يذوب في محيط نصراني حاقد، وينتظر من الأمة العون والنصر والمؤازرة وكأنه يقول: لقد نسيتمونا ولم ننس ارتباطنا بكم وفرطتم فينا ولم نفرط في ديننا، وها نحن أولاء اليوم ننادي بأعلى صوتنا أننا مازلنا على عهد ربنا فأدركونا قبل أن تفقدونا والموجة علينا قاسية والدائرة قوية فإن انشغلت الأمة بدنياها عن فليس أقل من الدعاء والاهتمام بمتابعة أخبارنا إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
التقينا بالشيخ الدكتور شوكت كراسنيتشي المتخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة والمدرس سابقا بكلية الدراسات الإسلامية ببرشتينا وخطيب الجامع الكبير بالعاصمة، التقينا به لتسليط مزيد من الأضواء على الحياة الإسلامية في هذا البلد الصغير وعلى أهمية الدعوة وإمكانياتها:
- عندما تنظر إلى الماضي البعيد لهذا البلد المسلم مرورا بالمحطات التاريخية المشحونة بالعزة والانتصارات وما تلاها من ضعف وابتلاءات وقسوة تسلط الأعداء لتصل إلى هذه اللحظة التي تعيشها كوسوفا، مالذي يمكن أن تقوله للأمة؟
- إذا نظرنا إلى الماضي وما فيه من نصر وهزيمة استشعرنا عظمة هذا الدين في كلتا حالتيه إذ النصر يمدنا بالثقة ويقوينا والهزيمة تزيدنا يقينا في قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9)، وإن الأمة مهما أصيبت بالتخلف والركون لا تفقد وصف الخيرية، أما عن شانئيها فإننا نعايش فيهم مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال: 36).
فقد رأيناهم ينفقون ويبذلون كلٌّ بما في وسعه بشتى الطرق ومختلف العقائد، فالنصارى بمذاهبهم المتعددة والشيوعيون وحركة الإلحاد العالمية وأخيرا القدوم الغربي الكبير بمختلف شهواته وشبهاته وتمكنه من السيطرة على أعصاب البلاد سياسيا وعسكريا وثقافيا تحت أغطية الأمم المتحدة ثم بعثات الاتحاد الأوروبي بدعوى الحماية وفض النزاعات وفض النزاعات، ولا ينفك كل ذلك عن الحرب المعلنة عن قيمنا وهويتنا وديننا ومبادئ أمتنا وحرصهم على نزع الإسلام من صدور قومنا وقلوبهم، لكن الصدمة لهم هي تلاشي جهودهم وأموالهم وتحققت فيهم بشارة ربنا لهم في تلك الآية التي أشرنا إليها سابقا.
- كيف تنظر إلى مخلّفات الحرب الأخيرة على هذا الشعب المسلم وما تلاها من مرحلة جديدة تتسم بالانفتاح الكامل على الغرب وما هي التطلعات المستقبلية لقادة الدعوة الإسلامية هنا وأنتم من أبرزهم؟
- الحرب سلوك بشري غارق في البشاعة ولكن على الرغم من ذلك إلا أنه حمل إلينا وجوها إيجابية وبعض السلبيات، ولا شك أن الإيجابيات أكثر وهي تستحق منا شكر الله عز وجل ومن أعظم ذلك الأمن الذي كنا نفتقده وهو مبدأ من مبادئ شريعتنا وقاعدة مهمة من قواعدها وهو من أوسع النعم علينا بعد الحرب حتى صار الواحد منا لا يخاف إلا الله وقد أَمِنّا على ممتلكاتنا وأعراضنا ودمائنا وأصبحنا أحرارا في كلامنا وأفعالنا وتوسعت دائرة أعمالنا سواء الدعوية أو ما كانت متعلقة بطلب أرزاقنا، في حين كنا في ضيق من كل ذلك ونكد يحيط بنا من كل جانب، أما سلبيات الحرب ومخلفاتها فالانفتاح الواسع على كل شيء والحرية المطلقة لفعل كل شيء مما شجع الإلحاد والانحرافات الفكرية والسلوكية فكما لنا حرية فلهم أيضا مثلها مع تشجيع إعلامي لهم وامتيازات من التمكين لهم في المناصب ومواقع التأثير، كما أصبحت البلاد مرتعا لدخول شتى الملل والثقافات والديانات فأُسست جمعيات لا حصر لها لإبعاد الناس عن الإسلام، كما خلفت الحرب الدمار والخراب مما رفع نسبة الفقر ووجدت بيئة تتسم بالفقر والجهل وهي بيئة أرادها الكفار من حولنا لأنها هي التي تناسبهم لبث أفكارهم وعقائدهم الباطلة ولا يصمد كثير من ضعفة الناس أمام إغراء المال والمناصب، ورغم كل ذلك نتطلع إلى مستقبل أحسن ونحن واثقون تمام الثقة أن المستقبل لهذا الدين وأن الأمة مقبلة على خير عظيم، والدليل على ذلك امتلاء المساجد بشباب غر ميامين وظهور الحاجة لبناء مساجد جديدة في كل أحياء المدن وكل القرى ونلاحظ عودة الناس إلى دين الله يوميا من كل الطبقات العمرية والثقافية، كما نلاحظ عودة الحجاب بوصفه ظاهرة ملموسة في الشوارع وفي مختلف ميادين المجتمع على الرغم من قيود المنع ومظاهر المحاربة الإعلامية التي يقودها رواد التغريب ودعاة الإلحاد والفساد، لذلك خلال العقد القادم ننتظر أن يتحول المجتمع الكوسوفي من جديد إلى مجتمع محافظ متمدين يحمل رايات الانتماء إلى الأمة والولاء الكامل لعقيدتها.
- ما توصيفكم للواقع الدعوي الحالي؟ وما احتياجاته؟ وهل هناك مخاطر تهدد المسلمين في دينهم؟
- من يعايش الدعوة إلى الله بهذا البلد الصغير يدرك وجود صحوة ونهضة جيدة بنيت على قواعد سليمة بعيدة عن البدع والخرافات والمخالفات الشرعية كما كانت في العهود السابقة الموروثة عن فترة الضعف والانحراف العثماني، وصحيح أن جهود الدعاة فردية وغير منظمة في كثير من أحيانها فلا يوجد للدعوة مظلة معينة كوزارة أو دائرة حكومية، لكن مع ذلك فآثارها ملموسة في كل طبقات المجتمع وظاهرة في كل حاضرة وبادية والحديث عن الإسلام والمسلمين عن القرآن وعن السنة هو حديث كل بيت وكل أسرة.
وإننا في الوقت الراهن لا نشعر بمخاطر حقيقية تهدد الدعوة الإسلامية، وإذا استمرت قافلة الدعاة إلى الله بجهودهم الهادئة الحكيمة باتزان وبلا عجلة وبتآلف وتعاون وبلا انشقاق ولا تنازع فأتوقع أننا سنتجاوز كل العقبات المحلية، أما العقبات الخارجية المتمثلة في الغزو الثقافي الذي أشرت إليه سابقا فسنواجهه بالعمل والحكمة والدعوة الصادقة والالتصاق بقضايا شعبنا وإدراك همومه ومعالجة مشاغله وفي ذلك صمام أمان يحول بين الشر أن يسود وبين الانحراف أن يقود والهزيمة أن تعود.
- ما حجم الدعم الذي قدمته الأمة المسلمة لكم للخروج من المحنة وهل لكم تواصل مع جهات فاعلة من مشايخ ودعاة ومؤسسات لمتابعة تلك الجهود السابقة؟
- لا شك أن جزءاً من أمة الإسلام لمسنا جهودهم الطيبة ومؤازرتهم لنا أثناء الحرب وبُعَيدها من خلال الجمعيات الخيرية وخاصة المؤسسات الدعوية ولكن سرعان ما انسحبت ونحن في أمس الحاجة إليها وبعضها أُخرج مكرا وكيدا بعد أن ظهر نجاحها وفعلها في الواقع مما أدى إلى توقف الدعم المادي وبقي الدعم المعنوي وهو هام أيضا من خلال بعض الزيارات لبعض الدعاة وأهل الخير خاصة من أهل الخليج العربي، أما تواصلنا معهم فليس على ذلك المستوى المطلوب لكنه أيضا غير منقطع ولله الحمد.
- ما أبرز مشروع يمكن أن يقام في كوسوفا ليحفظ للدين هيبته ويسهم في نشر الخير والدعوة وتدعون لإقامته بالتعاون مع إخوانكم في مختلف البلاد الإسلامية؟ وماهي أبرز الاحتياجات لإقامة ذلك؟
- لا شك أن أبرز مشروع في كوسوفا للنهوض بالدعوة والحفاظ على الهوية الإسلامية هو العناية بالتعليم من خلال بناء مدارس خاصة تعتني بالتعليم بجميع مراحله، وكذلك العناية ببناء الأوقاف، أما الحاجة الدعوية لذلك فالتعليم البديل الذي ندعو إليه يغطي النقص الظاهر من حيث المناهج التعليمة والخطط التربوية ويربي أجيالا متميزة تجمع وتوائم بين التعليم والتربية وتوفر للأخوات خاصة بيئة نظيفة وآمنة لارتداء الزي الشرعي المحتشم بلا خوف من الإقصاء والفصل والطرد.
- ما ملامح الفترة القادمة التي ستلي خروج القوى الدولية من كوسوفا والمحددة في شهر سبتمبر أيلول القادم وكيف تتوقعون أن تسير الأمور؟
- لا نتوقع تغيرا كبيرا من خروج القوى الدولية وإنما ستكون الأمور على ما هي عليه وقد يخف الضغط الثقافي والتغريب، أما الجوانب الحياتية الأخرى فنحن أوذينا من قبلهم ومن بعدهم، إلا أنه لا بد من السعي الجاد لتوحيد صفوفنا وتكثيف جهودنا وتنسيق أعمالنا لتوسيع قوة ضغطنا على أية حكومة محلية للمطالبة بالإصلاحات المنسجمة مع تطلعات الناس وتحقيق طموحهم وافتكاك حقوقهم.
- كلمة أخيرة تتوجه بها إلى قارئ مجلة الفرقان؟
- أريد أن أختم كلمتي بالشكر إلى القائمين على مجلة الفرقان الغراء وإلى قرائها الأعزاء، وهي وسيلة مهمة للتواصل مع الأمة وترابطها وهي تساهم في إعادة بناء وإحياء مفهوم الجسد الواحد وإن تباعدت الأقطار والشعوب فلا تزال المشاعر والقلوب مترابطة، وهاهي أيدينا ممتدة إليكم لكل مصافح، فبارك الله فيكم وجزاكم عنا كل خير.
لاتوجد تعليقات