العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (4-10) العمل التطوعي إحياء سنة
العمل التطوعي أسسه ومهاراته، سلسلة مقالات أردت منها إحياء سنة التطوع، فهو من أنبل الأعمال وأفضلها؛ لما فيه من عظيم الأجر، والنفع والخير للبلاد والعباد، فبه يستقر المجتمع وتحصل به المحبة والألفة والوئام بين المسلمين وتتحقق به مواساة أهل العوز والحاجة وإزالة أسباب الأحقاد من الصدور، وفيه نشر الألفة بين الناس، والتعاون على البر والخير بعيداً عن الفردية أو الأنانية أو السلبية.
وحينما نقلب صفحات تاريخنا الإسلامي نجد نماذج رائعة من الأعمال التطوعية التي كان لها الدور الفاعل في التنمية والحضارة؛ والتي وفرت الحياة الكريمة لكل إنسان في المجتمع المسلم، وتخفيف معاناة أهل الحاجة والعوز، ودفعت الطاقات البشرية لتسخر جهودها لمنفعة البلاد والعباد، وهذا ما حثت عليه شريعتنا الغراء، فالعمل التطوعي هو جزء من عقيدة المسلم وحياته اليومية.
ولتبيان الحقائق نقدم سلسلتنا في العمل التطوعي، وستكون حلقتنا الرابعة في أن إحياء العمل لمنفعة الآخرين إحياء سنة نبوية، وأن التطوع سمة من سمات المجتمعات المسلمة، ومن خلاله بُنيت الحضارة الإسلامية التي كانت من المجتمع للمجتمع.
حث النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على الصدقة، فجاء رجلٌ من الأنصار بصرة قد أثقلت يده فوضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده. من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
ففي الحديث بيان أن من كان أصلاً في عمل من أعمال البر والخير والهدى، وتبعه عليه غيره، كان له أجر هذا العمل وثوابه، قال صلى الله عليه وسلم: «من دعَا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنقص ذلك مِن أجورهم شيئا»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله».
فالمتطوع الداعي إلى سبل الخير في الأمة، ينال الفضل والأجر الكبير من رب العالمين، وكلما تبعه في عمله التطوعي أناس غيره، كان له الأجر المستمر ما دام يُعمل بما عمله فقد وجه إليه غيره وساهم في تفعيله بين الناس.
ولإحياء الأعمال التطوعية بين الناس، لا بد أن نحييها بأنفسنا أولاً، ثم ننقلها إلى غيرنا، ولا بد أن نُحسن الخطاب مع الآخرين بشأن التطوع من حيث المحتوى والمضمون والأسلوب والأداء، وأن نبذل مجهوداً مستمراً في نشر ثقافة التطوع، ونحن على يقين بأن أمتنا أمةُ عطاء، فما علينا إلا أن نعمل ونمهد الطريق لغيرنا للعمل من أجل الآخرين.
والأمة اليوم في أمس الحاجة لإحياء سنة التطوع في قلوب الناس وترجمتها عملياً؛ حتى تعود مجتمعاتنا تنعم كما كانت بالتكافل والتعاون والرحمة والعمل، فالعمل التطوعي في العهود الإسلامية السابقة أقام مؤسسات اجتماعية لوجوه من الخير والبر والتكافل الاجتماعي لم تعرف أمة من الأمم أمثالها.
التطوع سمة من سمات المجتمع المسلم:
العمل التطوعي أبرز سمات المجتمع المسلم، ومارسه المسلمون تلبية لأوامر الإسلام العقدية والتعبدية والخلقية ولحاجات الناس، حيث شمل العمل التطوعي كل جوانب الحياة. والعمل التطوعي من المرتكزات الضرورية في التنمية الاجتماعية، إذ يساهم في بناء التكافل الاجتماعي وتنمية وتفعيل القدرات الكامنة في أفراد المجتمع وزيادة مساحة التعاون والتراحم والتعاطف بين الناس.
وقد أصبح العمل التطوعي ركيزة أساسية في بناء المجتمع ونشر التماسك الاجتماعي بين المواطنين لأي مجتمع، والعمل التطوعي ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجموعات البشرية قديما، ولكنه يختلف في حجمه وشكله واتجاهاته ودوافعه من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، فمن حيث الحجم يقل في فترات الاستقرار والهدوء، ويزيد في أوقات الكوارث والنكبات والحروب، ومن حيث الشكل فقد يكون جهداً يدوياً وعضلياً أو مهنياً أو تبرعاً بالمال أو غير ذلك، ومن حيث الاتجاه فقد يكون تلقائياً أو موجهاً من قبل الدولة في أنشطة اجتماعية أو تعليمية أو تنموية، ومن حيث دوافعه فقد تكون دوافع نفسية أو اجتماعية أو سياسية.
الوقف ضمان لاستمرار عطاء المؤسسات التطوعية والخيرية، هذا ما أثبته التاريخ والواقع في عهود الخلافة الإسلامية، فالأوقاف هي الحجر الأساس الذي قامت عليه الكثير من المؤسسات التطوعية في ديار المسلمين، فمن أجل نجاح واستمرار مشروع تطوعي خيري كانوا يقيمون له الوقف لينفق عليه من إيراده، ولا يكتفون بإنشاء المشاريع دون التفكير في مستقبلها وضمان استمرار تشغيلها، لذلك كانت هذه المؤسسات تقوم بدورها في المجتمع بعض النظر عما يحصل لها من طوارئ الزمان أو لانصراف الاهتمام عن المشروع إلى غيره.
العمل التطوعي مقياس للحضارة:
العمل التطوعي كان وما زال مصدر قوة للأمة، والتاريخ شاهد على ما قام به من إنجازات عجزت عن مجاراتها أمم وشعوب، فالجوانب الإنسانية بلغت في استيفاء حاجات الفرد والمجتمع مبلغاً عظيماً عملت على إسعاد البشر بالحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلمهم وكرامتهم وسمو أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم.
إنها أعمال تطوعية قدمت رسالتها ليرى العالم أجمع محاسن ديننا ومعالم حضارتنا، وتلك الأعمال لم تكن مقتصرة على لون دون آخر، ولا عرق دون غيره، فهي لكل كبدٍ رطبة تدب على الأرض، وانتشار التطوع أصبح من المقاييس التي يقاس بها تقدم المجتمع وتطوره، فيعد الوعي بأهمية التطوع وممارسته بصورة فعلية مؤشر للتفاعل الإيجابي للأفراد تجاه مجتمعهم للنهوض به وتنميته في كافة المجالات، ولا تقتصر الآثار الإيجابية للتطوع على المجتمع فحسب، وإنما يعد التطوع من أهم الوسائل لبناء شخصية المتطوع وتنميته مهنيا واجتماعيا وأخلاقيا ودينيا.
فحضارتنا تتميز بأنها حضارة إنسانية مجتمعية شعبية لأنها من صنع أفراد الشعب، فبذل الخير مطلوب من كل مسلم، وإرادة الخير متوافرة، والنفع للمجتمع مقصد شرعي؛ ولذا تميز القطاع التطوعي والخيري في الإسلام وأضحى قطاعا إنسانيا شاملا ومتكاملا لمواجهة كل شيء بمرونة، فهو بجميع أنواعه بر وإحسان لجميع الإنسانية.
لاتوجد تعليقات