معنى «الصيام لي وأنا أجزي به»
ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذلك أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله عزَّ وجلََّ: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرأ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به»، فما معنى قوله: «الصيام لي وأنا أجزي به».
لقد تنوّعت عبارات العلماء في ذلك واختلفت وهي من قبيل اختلاف التنوع؛ حيث يجمعها معنى واحد لا اختلاف فيه، فمن قولهم في ذلك أن الصوم لا يقع فيه الرياء، كما قد يقع في غيره من الأعمال، وذلك أن الصوم يُبنى على السر؛ حيث لا يراك أحد من الناس أو ممن يشاهدك وأنت ممتنع عن الطعام والشراب، بينما الصلاة أو الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو قراءة القرآن أو سائر الأعمال يتعرض فيها عملك إلى رؤية الناس فيك وأنت تعملها، أما الصوم فهو في نيته وفي قصده وفي الامتناع عن الطعام والشراب وعن الجماع وأسبابه، تمتنع في ذلك ولا يراك أحد في حال امتناعك، وإنما عملك لا يكون فيه علم لغيرك إلا إذا أعلمتهم أنك صائم، ولقد أورد البيهقي في «شعب الإيمان» من عدة وجوه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «الصيام لا رياء فيه» قال الله عزَّ وجلَّ: «هو لي وأنا أجزي به»، ولكن هذا الحديث فيه ضعف، وعلته الانقطاع بين الزهري وهو محمد بن مسلم بن شهاب وبين أبي سلمة، ضعَّف إسناده الحافظ ابن حجر – رحمه الله- ومعنى قوله: «لا رياء في الصوم» أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال كما في الصلاة والزكاة والحج وقيام الليل والاستغفار وذكر الله عزَّ وجلَّ وغيرها من الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعل الفاعل لها، وبهذا صار للصوم هذه الخصوصية من هذه الحيثية، وبهذا الاعتبار أنه لا يدخله الرياء ابتداءً إنما يدخله من جهة الإخبار به كي يتباهى أو يفتخر أو يرائي فيقول إني صائم، فعلى المؤمن أن يدافع هذا الأمر عن نفسه مدافعة، فإن صام أخفى صومه وإن ألزم بالأكل والشراب وكان صائماً فرضاً فيلدافع ذلك، فإن لم يستطع في ذلك إلا أن يخبر فالأمر في ذلك لا بأس به، وذلك أن أمر الرياء وشأنه في الدين شأن خطير؛ إذ الرياء قادح من قوادح التوحيد، ولهذا عقد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى – في كتابه «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبد» باباً سماه باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وصدر هذا الباب وترجم عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود:15-16) ، كما ترجم فيها قوله صلى الله عليه وسلم ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله[: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعطى سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إذا كان في الساقة كان في الساقة، وإذا كان في الحراسة كان في الحراسة، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفّع».
ومن معاني قوله صلى الله عليه وسلم : «الصوم لي وأنا أجزي به» عن الله عزَّ وجلَ، قيل: إنما المراد بذلك أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، أما باقي العبادات فقد جعلت عليها حسنات ومثوبة أعلمتها للناس ربما يطلع بعضهم عليها، ويعد لهذا ما في الرواية التي رواها في الموطأ وكذا رواها الأعمش عن أبي صالح، حيث قال رسول الله[: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، قال الله عزَّ وجلَّ: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» كما يشهد لذلك المعنى ما رواه المسيب عن رافع عن أبي صالح بلفظ «إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لا يدري أحد ما فيه»، ويشهد له أيضاً ما رواه عبدالله بن وهب الفهري القرشي في جامعه عن محمد بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر عن جده زيد مرسلاً وصله الطبراني وغيره والبيهقي وغيرها عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «الأعمال عند الله سبع، وفيه عمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عزَّ وجلَّ، ثم قال: وأما العمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله فهو الصيام».
ومما جاء في قوله: «وأنا أجزي به» أن الكريم الغني إذا قال أنا أتولى الإعطاء بنفسي، كان ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه، والله سبحانه وتعالى هو أكرم الكرماء وأغنى الأغنياء، ففي قوله: «الصوم لي وأنا أجزي به» إشارة إلى تفخيم وتعظيم المثوبة التي رتبها الله عزَّ وجلَّ لمن صام وحسن صيامه.
ومما قيل في قوله: «الصوم لي» أي أحب العبادات إليَّ وهو المقدم عندي.
وقد قال في ذلك الحافظ ابن عبدالبر: كفى بقوله صلى الله عليه وسلم : «لي» فضلا بالصيام على سائر العبادات.
ومما قيل في قوله: «الصوم لي وأنا أجزي به»، أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب عزَّ وجلَّ، وهذا معنى معتبر، ومما قيل في ذلك أن سبب إضافة الصوم إلى الله أن الصيام لم يُعبد به غير الله سبحانه وتعالى البتة، بخلاف الصلاة والصدقة والذبح والنذر والطواف وغير ذلك فإنها ربما يشرك بها مع الله عزَّ وجلَّ فإنه ربما يصلي الإنسان مرائياً وربما يتصدق رياءً وربما يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله كما يفعله عبّاد الأضرحة وعبّاد القبور، وربما يطوف بمكان غير الكعبة رياءً وسمعة فيكون في العمل شرك من هذه الحيثية والناحية، أما الصيام فإنه عبادة لم يذكر أنه تقرب بها إلى غير الله عزَّ وجلَّ.
وقوله صلى الله عليه وسلم : «الصوم لي وأنا أجزي به» إنما اتفق العلماء على أن المراد بالصوم هنا هو صيام من سَلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً ووافق صيامه هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الصوم بهذا الاعتبار جامعاً بين شرطي العبادة، أولهما الإخلاص لله عزَّ وجلَّ وثانيهما المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم .
إذا علمنا هذا أيها الإخوة فإن هذا يوجب في الحقيقة الحذر من أن يقصد الإنسان بقوله أو عمله غير الله عزَّ وجلَّ أو ما يوجب مرضاته عزَّ وجلَّ فلا يكون همّ لطاعته وبقربته التي يتقرب بها إلا وجه الله والدار الآخرة، لا يكون لغير الله حظ من عمله الذي هو قربة، كما في ذلك التنبيه على وجوب مراعاة النية في العبادة واستشعار قصد التقرّب بها إلى الله عزَّ وجلَّ طاعة لأمره وامتثالاً لفرضه، وهو ما جاء في قوله تعالى من سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
فلا يكون قصده بعبادة الصوم العادة حيث اعتاد هو وأهله ومجتمعه الصومَ فهو يوافقهم على ذلك عادةً لا عبادة، دون استحضار معنى العبادة فإن هذا أمر قد يغفل عنه بعض الناس، والواجب الانتباه إلى هذا فإن الصوم إذا كان عادة من العادات، أو كان لأمر طبي، أو غيره فصام لذلك، لا يكون له حظ من العبادة، أما إذا نوى وعقد العزم في نيته أنه إنما يصوم عبادة لله وتقرباً لوجه الله وابتغاء لما عند الله مما رتبه من الثواب العظيم على هذا الصوم، كانت نيته هاهنا نيةً صالحة.
فالنية في الصوم لا بد منها ولا بد من تصميمها ولا بد من تنقيتها من شوائب ربما تؤثر فتقدح في كمال التوحيد أو ربما تقدح في أصله، فلا بد أن تكون تلك النية في الصوم هي بقصد التقرب إلى الله تعالى تعبداً بهذا الفرض الذي افترضه علينا، وذلك أن الله فرض الصوم فريضة في السنة الثانية من الهجرة فرخص الله فيه على الناس ما كان واجباً عليهم من صيام عاشوراء وأوجب عليهم صيام شهر رمضان، أوجبه من دخوله برؤية العبد له وأوجبه إلى خروجه برؤية العبد لهلال شوال، شهراً كاملاً سمي شهر رمضان لأن هذا الشهر وافق شهراً حاراً، وترمض فيه الفصال، وترمض فيه المخلوقات من شدة الحرارة فسمي رمضان، ورمضان يدور ولله الحمد في أشهر السنة فيكون في الصيف ويكون في الشتاء ويكون في فصل بين الفصلين.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يمنحني وإياكم الفقه في دينه وأن يرزقنا الثبات عليه وأن نكون في صومنا وفي سائر عباداتنا متقربين بها إلى الله مبتغين بها ما عنده، لا نريد بذلك جاهاً ولا رياء ولا سمعةً ولا شيئاً غير وجه الله سبحانه وتعالى، وأن يجعل عملنا لوجهه خالصا نبتغي به رضا الله سبحانه وتعالى ونطمح به إلى جنان مرضاته فننال يوم القيامة ما رتب الله لنا عليه من الثواب إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
لاتوجد تعليقات