الأربعون الوقفية (22)
جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلت، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها، أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث الثاني والعشرون:
وقف المنقول من الخيل والإبل
- عن ابن عباس قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحِجَّنِي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت أحِجَّنِي على جملك فلان، قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله[ فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك، قالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت: أحجني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله».
إن الوقف نظام إسلامي فيه من المقاصد والأبعاد والغايات والمرونة ما يحقق الغاية التي شرع لها، وتطبيقاته حققت نجاحات على مر العصور. فهو صدقة جارية يعم خيرها ويكثر نفعها، وسبب من أسباب سد حاجات المسلمين، وإعانتهم على أمور دينهم ودنياهم، وصفحات التاريخ حافلة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار الوقف وامتثال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النبي لإعمار الأرض في حياتهم، وللأجر المستمر بعد مماتهم، كانوا بذلك قدوة للأمة على مر العصور قولاً وفعلاً، وأضحى الوقف سلوكاً جماعياً واعياً ارتضاه المسلمون رغبة في خيري الدنيا والآخرة، مما أبهر العالم أجمع بهذا العطاء.
وفي الحديث، الرجل هو أبو طليق، قالت له امرأته عندما علمت أن رسول الله سيحج، «أحِجَّنِي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم »؛ فأجابها أن ليس لديه ما يحجها عليه، قالت: أحِجَّنِي على جملك فلان، أي أعطني جملك لأحج عليه، قال: جملي حبيس في سبيل الله، أي وقف لله تعالى للغزو والجهاد، فأتي النبي[ وأخبره ما دار بينه وبين زوجته في شأن الحج على جمله الذي أوقفه في سبيل الله، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم : «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله».
- وقوله: «ذاك حبيس في سبيل الله»، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، دليل على أنه يجوز وقف المنقول كالحيوان وغيره، قال الخطابي: «فيه من الفقه جواز إحباس الحيوان، وفيه أنه جعل الحج من السبيل».
- ويقول الإمام الشوكاني: «فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان»، والحيوان من المملوك المنقول الذي تبقى عينه بعد الانتفاع به غالباً، ولو لم يجز وقفه لما رتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأجر العظيم، ولأنه يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فصح وقفه كالعقار، والفرس الحبيس، ولأنه يصح وقفه تبعاً لغيره، فصح وقفه منفرداً كالعقار.
والحديث فيه دلالة على أن الحج من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في (الاختيارات العلمية): «ومن لم يحج حجة الإسلام وهو فقير، أعطي ما يحج به، وهو إحدى الروايتين عن أحمد»، وقد رواه أبو عبيد في (الأموال) عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: أما إنه في سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في «الفتح». ورواه أبو عبيد بسند صحيح. انتهى كلام الألباني من كتاب «تمام المنة».
والعلماء أجازوا أن يأكل الواقف من غلة وقفه بالمعروف كالناظر المعين تماماً، إن كان الواقف ناظراً على وقفه، وله أيضاً أن يستخدم ما وقفه من دابة، وما شابهها مثل السيارة وأنه لا حرج في ذلك.
وفي اتخاذ الإبل من مال الله ليحج بها الناس، قال الإمام مالك: بلغني أن عمر ابن الخطاب اتخذ إبلاً من مال الله يعطيها للناس، يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه. قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال الله؛ لأن أولى ما صرف فيه مال الله ما يستعان به على أداء فرائض الله، فينبغي للأئمة أن يأنسوا في ذلك بفعله.
فوائد من الحديث
فيه صحة وقف المنقول من الخيل والإبل والمعدات الحربية، وفيه من وقف شيئًا على صنف من الناس وزوجه منهم دخل فيه، فإذا وقف على طلاب العلم وولده منهم دخل فيهم واستحق العطاء أيضًا وهكذا، وفيه جواز استفادة الواقف من وقفه عند الحاجة، وفيه أن من مصارف الوقف إعانة الحجيج على أداء شعائرهم.
وفيه حرص الصحابة الكرام أن يكون عملهم موافقا للشرع، فكانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بما يشكل عليهم ويمتثلوا لأمره صلى الله عليه وسلم .
وفيه أن الإبل من الدواب التي كان العرب يجاهدون عليها، وفيه مشروعية إرسال السلام إلى الغائب، وعليه العمل عند المسلمين.
والجهاد في سبيل الله تعالى من أفضل الأعمال والقربات التي حث عليها الإسلام. وذهب الفقهاء إلى أن الأوقاف التي تكون في الثغور البرية والبحرية، ولم يحدد لها واقفها مصرفا معينا، تكون مخصصة للجهاد.
ولا شك أن الرباطات الكثيرة التي كانت تنتشر على ثغور البلاد الإسلامية في القديم كانت تعتمد على الأوقاف، وكان الرباط مؤسسة تجمع بين وظائف التربية الدينية وإعداد المجاهدين وإعداد العدة اللازمة من سلاح وطعام، وكانت تلحق بها أجنحة لصناعة الأسلحة، والأوقاف هي المورد الدائم للنفقات الضرورية لكل هذه الوظائف.
فالأوقاف كانت الحجر الأساس الذي قامت عليه الكثير من المؤسسات الخيرية والتطوعية والإنتاجية والتعليمة والصحية والتنموية، وقد نشأت بأموال الأوقاف مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله حيث توقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد، حتى إن الغربيين كانوا يفدون في أيام الهدنة لشراء السلاح؛ مما حدا بالعلماء في وقتها للإفتاء بتحريم بيع السلاح لأعداء الإسلام.
وبهذا النظام قاومت الأمة الإسلامية أعداءها على مر العصور، وصدت جيوش الاستعمار في العصر الحديث، ولم ينجح المستعمر في اختراق حدودها إلا بعد أن ضعفت مؤسسة الوقف وتقلص دورها في حياة المسلمين. وهذا لا يعني أن الجيوش الإسلامية لم تكن كغيرها تنهزم، ولكن هزيمتها لا تعني انهزام الأمة كلها؛ فقد كانت الأمة بمؤسساتها الوقفية والمجتمعية والتنموية تقاوم المعتدي وترده على أعقابه، ولم تنهزم الأمة قط هزيمة مدمرة إلا بعد أن تقلص دور الأمة لحساب سلطة الدولة الحديثة، حقاً لقد تراجعت الأمة وفقدت مؤسساتها الوقفية التي مولت صناعة الحضارة الإسلامية.
نظام أثبت نجاحه على مر العهود، وآثاره وإنجازاته شاهدة على ذلك النجاح؛ ولهذا تكالب جهد العلماء والفقهاء، وجهد الخلفاء والأمراء، وجهد الخيرين والواقفين، وجهد عامة الأمة، في إيجاد الأوقاف وإنشائها، ورعايتها وحمايتها، ونمائها وديمومتها.
لاتوجد تعليقات