رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 30 يناير، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (17)

 

     جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

       والحديث السابع عشر إرشاد وبُشرى: إرشاد للمسلم أن يكون ذا همة عالية من التكليف حتى الممات، مهما اعترته عقبات الحياة، وتشويش الأعداء، وظلم الآخرين، وأن يعمل لهذا الدين وأن يجدد العطاء؛ وبشرى للمسلم إذا أراد الله بعبد خيراً، يقبضه بأحسن أعماله، وهذا من حسن الخاتمة.

الحديث السابع عشر:

الوقف توفيق لعمل صالح قبل الموت

       عن أبي عنبه الخولاني رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه».

       الحديث من جوامع كلم النبي صلىالله عليه وسلم ، جمع معاني عظيمة، وأرشد لبرنامج حياة تسعد فيه القلوب، فمن إكرام الله تعالى وتوفيقه إلهامه العبد من عباده التزود من الطاعات وأعمال الخير قبل موته، وأفضل الأعمال التي يوفق لها المسلم ويطيب ذكره ومنفعته في حياته وبعد مماته الوقف لأبواب الخير؛ وذلك من علامات حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته لعمل صالح يدوم نفعه وأجره؛ وأفضل ما يدوم فيه النفع هو الوقف، بأن يحبس مما يملك ويجعله وقفاً لله تعالى.

       وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم  ما رزق الله العبد من العمل الصالح قبل الموت، بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيء؛ والعرب اعتادت أن تسمي ما تستحليه بالعسل، جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر: العسل: طيب الثناء، مأخوذ من العسل، يقال:  عسل الطعام يعسله: إذا جعل فيه العسل، شبه ما رزقه الله تعالى من العمل الصالح الذي طاب به ذكره بين قومه بالعسل الذي يجعل في الطعام فيحلولى به ويطيب، ومنه الحديث: إذا أراد الله بعبد خيراً عسله في الناس، أي: طيب ثناءه فيهم.

       وفي لسان العرب: «أي جعل له من العمل الصالح ثناء طيِّباً شبه ما رزقه الله من العمل الصالح الذي طاب به ذِكرُه بين قومه بالعَسَل الذي يُجْعَل في الطعام فَيَحْلَوْلي به ويَطِيب، وهذا مَثَلٌ من وفَّقَه الله لعمل صالح يُتْحِفه كما يُتْحِف الرجل أَخاه إِذا أَطعمه العَسَل، والعُسُل: الرجال الصالحون. قال: وهو جمع عاسل وعَسُول، قال: وهو ممَّا جاء على لفظ فاعل وهو مفعول به، قلت: كأنه أراد: رجل عاسل: ذو عسل أي ذو عمل صالح الثناء عليه به، مستحلى كالعسل».

       وفي معجم مقاييسُ اللّغة: «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عَسَلَه، معناه طيَّبَ ذِكرَه وحلاَّهُ في قلوب النّاس بالصَّالح من العمل، من قولك عَسَلْتُ الطَّعامَ، أي جعلتُ فيه عَسلاً، وفلانٌ معسول الخُلُق، أي طيِّبه، وعَسَلْتُ فلاناً: جَعلتُ زادَه العسل».

       والحديث إرشاد للمسلم أن يكون ذا همة عالية من التكليف حتى الممات، مهما اعترته عقبات الحياة، وتشويش الأعداء، وظلم الآخرين، وأن يعمل لهذا الدين وأن يجدد العطاء؛ لأن أمتنا أمة تجديد لا أمة تبديد، وأمة إبداع لا أمة ابتداع، وأمة ابتكار لا أمة تكرار.

       ومن حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته للتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، وهذا من علامات حسن الخاتمة، فيتذكره الناس بفعله للخير، وبما حبسه لله تعالى من وقف لنفع المسلمين وغيرهم، فكم من الأوقاف بقيت بعد موت واقفها، يدعى له بالرحمة والمغفرة على ما قدم.

       من هذا الحديث أخذ بعضهم عبارة الثناء: «عسلك الله»، فيا فوز من عسله الله ويا حسرة من كان كالحنظلة مرة المذاق كريهة الرائحة، فالحرص الحرص على تعسيل العبد لأعماله حتى يعسله الله.

       وخير ما يعسل المسلم دنياه وآخرته الوقف، فهو أفضل الصدقات التي حث الإسلام عليها وعدها من أكثر الأعمال تقرباً إلى المولى عزَّ وجلَّ ومن أفضل أعمال البر، ومجالاً من مجالات الإنفاق، ورافداً من روافد الخير والعطاء، يعم فيه الخير، وتتنامى فيه الصلات بين الأقارب، والألفة والتراحم بين أفراد المجتمع، فيه الاستمرار والبقاء، لا غنى عنه للأمة التي تريد العزة والحضارة، فكم خرَّجت مدارسه من علماء وفقهاء، وكم حفظت مكتباته من مخطوطات، وكم رعت نزله من مسافرين، وكم أطعمت تكياته من منقطعين، وكم عالجت مشافيه من مرضى، وكم قدمت صيدلياته من عقاقير ودواء، وكم نسجت مشاغله من كساء، وكم آوت ملاجئه من أيتام وعجزة، وكم سقت آباره من إنسان وطير وبهيمة، وكم حفظت عطاءاته من كرامة الإنسان، وكم كفلت إيراداته من طلبة علم تفرغوا للتحصيل العلمي، وكم ساهمت مؤسساته في حل المشاكل الاجتماعية، وكم عالجت مؤسساته الثقافية من ظواهر وآفات.

 أَلا إنَّ مَنْ رامَ الفلاحَ لنفسِه

                                   وفازَ مِن الدُّنيا بمالٍ وَافِ

فَلا بُد أنْ يسعَى حثيثا لبذلِه

                                   ويُخرجَ بعضًا منه للأوقافِ

فذلِك فوزٌ للغنيِّ وبلغةٌ

                                   ليجني في الأُخرى عظيمَ قِطافِ

       فوائد من شرح الحديث: فيه الحث على إلزام النفس بالعمل الصالح، والتجديد بالأعمال التي تقرب إلى الله تعالى؛ وإن العمل الصالح إن كان تعدى لما ينفع النفس لينفع الآخرين كان أجره أعظم لأنه دال على الخير.

       وفيه حث للمسلم على التوبة والإنابة قبل غلق الإجابة، فما زال الباب مفتوحاً، وأبواب الخير عظيمة، فاجتهد بما ينفع نفسك والمسلمين؛ ولا تؤجل ولا تسوف إن أردت الفلاح، وأردت تعسيل الله لك، فلا تركن إلى التسويف والأمل حتى يسبقه الأجل.

       وفيه أن يكون المسلم دائم السعي للخاتمة الطيبة؛ لأنه لا يعرف متى تقبض روحه، وفيه كذلك أن من حسن الخاتمة أن يوفق المسلم قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

       وفيه من علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة»، لذا على المسلم أن يلح في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى، وأن يقيه شر الدنيا وفتنتها؛ وأن يداوم على الطاعات، وعمل الخير.

       وفيه حث للمداومة على الأعمال الصالحة، وهي من أحبِّ الأعمال إلى الله، ومن علامات التوفيق أن يوفق العبد لنفع الناس، وقضاء حوائجهم، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم». وإذا قبل الله تعالى عمل عبد من عباده، وفقه إلى عمل صالح بعده.

       وللعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاء في الدنيا حسن رعاية الله، ففي الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها». وفي الآخرة الأجر الواسع من رب العالمين.

       والعمل الصالح توفيق من الله تعالى، وهو بيد الله وليس بيد العبد، والتوفيق مفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجوء والرغبة والرهبة إليه، وهو لا يقتصر على عباداتٍ معيّنة وحالات مخصوصة، فمن بنى مسجدًا أو أنشأ مدرسةً أو أقام مستشفى أو شيَّد مصنعًا ليسُد حاجة الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحاً وله به أجر، من وَاسَى فقيرًا وكفل يتيماً وعاد مريضًا وأنقذ غريقًا وساعد بائساً وأنظر معسِراً أرشد ضالاًّ فقد عمل صالحاً.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك