التبصرة في ذكر أحاديث ضعيفة مشتهرة
تحقيق أنشودة:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أخرجها البيهقي في دلائل النبوة (2/233):
أنبأنا أبوعمرو الأديب، قال: أنبأنا أبوبكر الإسماعيلي، قال: سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: «لما قدم عليه السلام المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع...»
قلت: ابن عائشة هو: عبيدالله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التميمي، أبوعبدالرحمن البصري المعروف بالعيشي، والعائشي، وبابن عائشة.
قال الآجري:
سمعت أبا داود ذكر ابن عائشة فقال: «غير ثقة ولا مأمون» (سؤالات الآجري لأبي داود 5/ق38).
وقال أبوداود رحمه الله تعالى:
«كان ابن عائشة طَلَّابة للحديث عالما بالعربية وأيام الناس لولا ما أفسد نفسه» (سؤالات الأجري 2/ق8). وأكد الطبري حديث ابن عائشة في الرياض النضرة عن أبي الفضل لجامحي قال: سمعت ابن عائشة يقول..
قلت: وذكره القسطلاني بدون إسناد فقال في المواهب: «وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير - أي الأسطحة - عند قدومه [ يقلن: طلع البدر علينا..».
وقال القسطلاني: «وسميت ثنية الوداع؛ لأنه [ ودّع بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره وهي غزوة تبوك، وقيل: لأنه [ شيع بعض سراياه إليها وهي سرية مؤتة فودعهم عندها». وقال الزرقاني: «وهذان يعطيان أن التسمية بثينة الوداع حادثة».
قلت: ومن هذا يتبين أن هذا النشيد قيل بعد التسمية الحادثة، وهذا يؤكد أن وقوع التسمية - ثنية الوداع - كان في ذهابه إلى غزوة تبوك أو قبل سرية مؤتة، وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة لهجرة النبي [، أما سرية مؤتة فقد حدثت في السنة الثامنة من هجرته [، فبين الهجرة النبوية والغزوتين ثماني سنين وكذلك تبوك ومؤتة إنما هما شاميتان بالنسبة للمدينة، ومن هذا يتبين أن هذا النشيد - أو الأنشودة - لم يقع عند وصوله إلى المدينة [. وبين القسطلاني أن هذه التسمية «ثنية الوداع» إنما كانت لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما، وصحح القاضي عياض هذا القول.
وقال أبومحمد بطّال رحمه الله:
«إنما سميت بثنية الوداع؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي».
< كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى عن ثنية الوداع: قال رحمه الله تعالى: «فلما دنا رسول الله [ من المدينة، خرج الناس والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا للــــــــه داع
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه [ إلى المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، فلما أشرف على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه» أخرجه الشيخان (زاد المعاد في هدي خير العباد 3/551). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
< قول الشيخ محمد الصادق إبراهيم عرجون:
«وأما حديث ابن عائشة فهو وإن كان من جهة سنده معضلا فإنه لا مانع من الاستئناس به!! ولا سيما أن الزرقاني وصف ابن عائشة بكونه ثقة!! فإذا صح الحديث إلى ابن عائشة كان مؤنسا لمن يقول: إنه من جهة مكة ثنية وداع مر بها رسول الله [ وهو قادم في الهجرة من مكة إلى المدينة»
(محمد رسول الله [ 2/608). انتهى.
قلت: هذا كلام مردود، ومتهافت، كيف يستأنس بحديث معضل وقد سقط منه روايان!! ولا عبرة بتوثيق الزرقاني لابن عائشة، وفي الحكم عليه من جهابذة علماء الحديث كما تقدم غنية.
قال الحافظ أبوالفضل بن حجر في الفتح (7/361-362):
«وأخرج أبوسعيد في «شرف المصطفى» ورويناه في «فوائد الخلعي» من طريق عبيدالله بن عائشة منقطعا لما دخل النبي [ جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك» انتهى.
قلت: هذا حكم الحافظ أبي الفضل بن حجر رحمه الله تعالى على هذا الحديث الساقط الإسناد بأنه معضل، والمعضل هو من أقسام الحديث الضعيف.
أما قول بعض الناس الذين ذهبوا إلى تصحيح الحديث بأن ثنية الوداع إنما هي اثنتان، فهذا فيه نظر، فهي واحدة، التي هي من ناحية الشام، والله أعلم.
قالوا: فلا مانع قط أن يكون النبي [ تلقاه أولا أهل المدينة وهو قادم من مكة مهاجرا إلى المدينة عند ثنية الوداع التي هي من جهة مكة بالفرحة وإنشاد الشعر العاطفي؛ تعبيرا عن لهفة الشوق التي كانت في صدور الذين لم يسبق لهم مشاهدته [، وخاصة النساء والصبيان والولائد الذين تغلب عليهم عواطف الفرحة فيعبرون عنها بالغناء والترنم بإنشاد الشعر!! وتلقوه [ ثانيا وهو قادم من غزوة تبوك منصورا مظفرا مؤيدا بتوفيق الله بالفرحة وإنشاد هذا الشعر.
قلت: هذا القول يحتاج إلى دليل، ولا دليل صحيحا يؤيده، فأقول: أثبت العرش ثم النقش، وهذا القول فيه تمحل ظاهر.
وهذا الشعر أو النشيد لم يعرف أهل العلم من الذي قاله، ولم ينسبه أحد من العلماء أو الأدباء لشاعر، وقد خلت سيرة ابن اسحاق وسيرة ابن هشام وهما من هما في بيان سيرة النبي [ من هذه الأبيات، مع وجود كثير من الشعر.
وهذا مما يؤيد ويؤكد عدم صحة هذا النشيد عند دخول النبي [.
وقد أبعد الشيخ صفي الرحمن المباركفوري رحمه الله عن الصواب عندما ذكر في كتابه «الرحيق المختوم» جازما بنسبة النشيد إلى بنات الأنصار في دخول النبي [ المدينة.
قال رحمه الله: «وبعد الجمعة دخل النبي [ المدينة - ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة رسول الله [، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا - وكان يوما تاريخيا أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحا وسرورا:
أشرق البدر علينا.. من ثنية الوداع .
(الرحيق المختوم ص172). وقال رحمه الله في الحاشية رقم (4): «ذكر ابن القيم أن إنشاد هذه الأشعار كان عند مرجعه [ من تبوك، ووهّم من يقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة (زاد المعاد 3/10)، لكن ابن القيم لم يأت على هذا التوهم بدليل يشفي، وقد رجح العلامة المنصور فوري أن ذلك كان عند مقدمه من المدينة، ومعه دلائل كثيرة لا يمكن ردها!! (انظر: رحمة للعالمين 1/109)» انتهى.
قلت: كلام ابن القيم واضح وقوي، وبين رحمه الله تعالى أن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة..
وهذا كلامه وكذلك قول الحافظ ابن حجر وكثير ممن تقدم ذكرهم أن ثنية الوداع من ناحية تبوك.
وكذلك من الأدلة البينة على أن ثنية الوداع من ناحية تبوك ما قاله أبوهريرة ]: «كنا في غزوة تبوك فنزلنا ثنية الوداع، فرأى النبي [ مصابيح ونساء يبكين، فقال: «ما هذا؟» فقيل: «نساء تُمُتِّعَ بهن فهن يبكين»، فقال [: «حرام» أو قال: «هدم المتعةَ النكاحٌ والطلاق والعدة والميراث». حديث حسن لغيره لطرقه. رواه أبويعلى (رقم: 6625) (11/503).
والحادث بن أبي أسامة (بغية الباحث رقم 467) (2/606). وأخرجه الدارقطني (3/259). وابن حبان (صحيح ابن حبان رقم 4149) (9/456). والبيهقي في السنن الكبرى (3/259). والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/36). والحازمي (الناسخ والمنسوخ 17)، وقال الحازمي: «غريب من هذا الوجه، وقد روي من طرق تقوى بعضها بعضا».
وله طريق آخر من مرسل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، قال: «نسخ المتعةَ الميراثٌ». أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/207).
وصححه أبوالفضل الحافظ بن حجر (9/172).
قال الدكتور مهدي (1/337):
«لقد وقف بعض العلماء عند هذا الحديث وناقشوه من حيث السند والمتن لوجود إشكال في روايته؛ إذ وردت فيه كلمة «ثنيات الوداع» التي اشتهر أنها من جهة الشام وليست من جهة مكة، ويرى عرجون صحة نسبة النشيد إلى حادثة قدومه إلى داخل المدينة دار أبي أيوب، ويوفق بين الروايات ويناقشها ولا يستبعد تكرار إنشاد النشيد في زمن عودته من تبوك، فليراجع عرجون (2/602-611) ونحن نميل مع عرجون إلى تعدد إنشاد النشيد، وإلى أن ثنيات الوداع ليست إلى جهة الشام فقط» انتهى.
قلت: قد تقدم بحمد الله تعالى التعليق على كلام عرجون فلا داعي للإعادة، أما ميل الدكتور مهدي لكلام عرجون في تعدد إنشاد النشيد وإلى أن ثنيات الوداع ليست إلى جهة الشام فقط، فلا شك أن النشيد غير ثابت وإسناده معضل كما تقدم، وأن ثنية الوداع هي من جهة الشام كما قال أبوهريرة [ وكما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وكذلك أهل السير.
والخلاصة: أن هذا النشيد لا يصح من جهتي الإسناد والمتن كما تقدم، ولم أجد أو أظفر بعالم من علماء السنة أهل الحديث المختصين بعلم الحديث الذين يعتمد عليهم ويوثق بعلمهم وهم أهل الجرح والتعديل السابقين والمعاصرين من صحح هذا النشيد وأثبت أن النساء والولائد قلن ذلك عند دخول سيد البشر إلى المدينة. وهذا النشيد لم تروه الكتب الستة والعشرة والأربعون!!
ولا تغتر بجزم ابن الجوزي كما تقدم قوله؛ لأن ابن الجوزي وإن كان هو صاحب كتاب «الموضوعات» لكن المتتبع والراصد لهذا الكتاب خاصة ولكتبه عموما يجد فيها أوابد وغرائب في تصحيحه أحاديث ضعيفة باطلة، وتضعيف أحاديث صحيحة وحسنة، وسكوته عن أحاديث منكرة، وعندي بحمد الله تعالى رسالة أسميتها «الإسفار في تساهل وتعنت ابن الجوزي في الأحاديث والأخبار».
أسأل الله تعالى أن يعينني على نشرها.
لاتوجد تعليقات