وقفات فقهية (18)التعريف بالتكفير وحكمه
يقول الله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها} (الكهف: 29). والتكفير: هو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر. وهنا نتساءل: هل يجوز أن يكفر المؤمن غيره ممن ينتسب إلى الإسلام؟ وهنا وقفات لابد من إيضاحها:
- أولا: يقول الله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام: 159)، وقال [: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: ومن تلك الواحدة؟ قال: ما أنا وأصحابي عليه» أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، والمقصود هنا بـ (الفرقة) ما يعرف بالمذاهب العقائدية، لا المذاهب الفقهية، وليس هناك دليل على أن أعداد تلك الفرق متساوية، بل المرجو بأن أغلبهم من الفرقة الناجية بفضل الله؛ لما ثبت في الصحيحين، عنه [: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» لفظ مسلم.
- ثانيا: أما وضع الفرق المخالفة، فهي تضم أعدادا من الأشخاص لديهم معتقدات، ويقولون أقوالا، ويعملون أعمالا، يخالفون في كثير منها ما كان النبي [ وأصحابه عليه. فالشخص المعتقد بهذا لا نعلم بحقيقة ما ينسب إليه واعتقاده، فقد يشمله قول الله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (يوسف: 106)، وقد لا يشمله، وكذا قوله قد لا يخرج عن قول الله تعالى: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} (الأنفال: 74). وكذا قد يكون ما يعملونه ليس ببعيد عن قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون} (الأعراف: 28-29). وكثير منهم قد لا يصل إلى هذا الحد في أموره كلها، علما أن من تلك الفرق من تجرأ على تكفير المؤمنين، وتبعهم من كفّر التابعين إلى يومنا هذا واتهموهم بالإرهاب والتكفير، فأباحوا لأنفسهم ما رأوه محرما على غيرهم.
- ثالثا: قال العلماء: التكفير حكم شرعي من أحكام الدين له أسبابه وضوابطه وشروطه وموانعه وآثاره، شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام الشرعية، وإنما يثبت بالأدلة الشرعية، قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده على البكري (1/381): فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزُنيَ.. ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنا حرام لحق الله. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا فإن تكفير الشخص المعين موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر. انتهى. وقال في الفتاوى (12/487): إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، ا هـ. ويُستنتج من هذه القاعدة عدة نتائج:
1- الكافر هو من كفره الله ورسوله، فلابد من تعلم أحكامه والتفقه فيه؛ فله أهمية كبيرة لارتباطه بكثير من الأحكام الشرعية، مثاله: النكاح فلكي نقبل بالرجل زوجا لابد أن يكون مسلما؛ فلا يحكم في التكفير إلا العالم بالأدلة الشرعية.
2- لا يجوز مجاوزة الحد الشرعي فيه، لا بإفراط ولا بتفريط، وهناك فرق بين التحذير من التكفير وبين التحذير من الغلو فيه، فالنصوص تحذر من الغلو فيه؛ منها ما رواه البخاري في صحيحه (5698) عن النبي [ يقول: «لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» وفي إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (4/76): «وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين وليس كذلك، وقع فيه خلق كثير لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم. وهذا لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك» انتهى. وفي «السيل الجرار» للشوكاني (4/578): اعلم أن الحكم على الرجل المسلم.. بدخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما» متفق عليه، ففي هذه، أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير.
- رابعا: ولعدم الإطالة نختصر جانبا من أقوال العلماء، فالسؤال هنا: بم يكون التكفير؟
أ- التكفير بالاعتقاد: اتفق الفقهاء على تكفير من اعتقد الكفر باطنا، إلا أنه لا تجري عليه أحكام المرتد إلا إذا صرح به.
ب- التكفير بالقول: اتفق العلماء على تكفير من صدر منه قول مكفر، سواء أقاله استهزاء، أم عنادا، أم اعتقادا؛ لقوله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (التوبة: 65-66). وهذه الألفاظ المكفرة قد تكون صريحة كقوله: أُشرك أو أَكفُرُ بالله، أو غير صريحة كقوله: عيسى ابن الله، أو جحد حكما أجمعت عليه الأمة وعُلم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة أو الزكاة وحرمة الزنى بلا خلاف بينهم.
أما من سبق لسانه إلى الكفر من غير قصد لشدة فرح أو دهش أو غير ذلك، كما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله [ لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قا>مة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»، أو أكره عليه (على الكفر)، فإنه لا يكفر؛ لقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل: 106) ولقول النبي [: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
واتفق العلماء: على تكفير من سب الذات المقدسة العليَّة أو استخف بها أو استهزأ؛ لقوله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (التوبة: 66).
وذهب الفقهاء، إلى تكفير من سب نبيا من الأنبياء، أو استخف بحقه، أو تنقصه، أو نسب إليه ما لا يجوز عليه، كعدم الصدق والتبليغ، وسب الملائكة كسب الأنبياء.
واتفق الفقهاء، على أن من كفّر الصحابة فإنه يكفر، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة وكذب الله ورسوله. واتفقوا: على أن من قذف السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها بما برأها الله منه، أو أنكر صحبة الصديق كفر؛ لأنه مكذب لنص الكتاب.
ج- التكفير بالعمل: نص الفقهاء على أفعال لو فعلها المكلف فإنه يكفر بها، وهي كل ما تعمده استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له، كالسجود لغير الله، لصنم أو شمس أو قمر أو قبر؛ فإن هذه الأفعال تدل على عدم التصديق، وكإلقاء المصحف في قاذورة، فإنه يكفر وإن كان مصدقا؛ لأن ذلك في حكم التكذيب، ولأنه صريح في الاستخفاف بكلام الله تعالى، والاستخفاف بالكلام استخفاف بالمتكلم. وقد ألحق المالكية والشافعية إلقاء كتب الحديث به.
وأما مرتكب الكبيرة فمذهب أهل السنة والجماعة عدم تكفير مرتكب الكبيرة، وعدم تخليده في النار إذا مات على التوحيد، وإن لم يتب؛ لقول النبي [: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، فلو كان مرتكب الكبيرة يكفر بكبيرته لما سماه الله ورسوله مؤمنا.
تكفير الساحر: اتفق الفقهاء على تكفير من اعتقد إباحة السحر {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} (البقرة: 102)، انتهى.
- خامسا: وفي الواقع العملي انقسموا في التكفير إلى ثلاثة، بين مجاوزة الحد الشرعي فيه، بإفراط أو تفريط، ومنهم من التزم بالوسطية:
1) فمنهم من بادر بالتكفير، وقد يكون ذلك خلافا لقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} (النساء: 94)؛ لأن المخالفين ليسوا في مرتبة واحدة من المخالفة أي لابد من {فتبينوا}.
2) ومنهم من لم ير بأسا بما هم عليه من مخالفات صريحة في معتقدهم وقولهم وعملهم، بل يبحث لهم عن الأعذار بالتأويل ويراه اجتهادا منهم وربما يصل الأمر إلى موالاتهم خلافا لقوله تعالى: {ولو كانوا يؤمنون بالله وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} (المائدة: 81)، وقد يكون ذلك تشجيعا لهم على الاستمرار فيما هم عليه من المخالفة، أو لتقليدهم.
3) ومنهم من اتخذ الوسطية، فترك تكفير الأشخاص بذواتهم لعدم العلم بحقيقة أمرهم أو بما يختم الله لهم، والالتزام بقوله تعالى: {فتبينوا} وذلك بعلم مؤكد موقوف على تبلغهم الحجة التي يكفر من خالفها، مع وجوب إيضاح وبيان أن ما يعتقدونه من اعتقاد، أو يقولونه من أقوال، أو يعملونه من أعمال من مخالفة للدين هي باطلة وداخلة في قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} (آل عمران: 28) للزجر عنه؛ وذلك استجابة لقوله تعالى: {وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} (الأعراف: 164)، وللسلامة من أن يقتدي بهم الآخرون وامتثالا لقوله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها} (الكهف: 29) ولعل ذلك هو الأرجح، والله أعلم.
لاتوجد تعليقات