الطائفية والفساد والفقر ثالوث يقض مضاجع شعب الرافدين- الحكم الطائفي يضع العراق على شفا محرقة
بعد أن ضاق ذرعًا من الحكم الطائفي المهيمن على أوضاعه منذ عام 2003 ومن نهب مقدراته ومن تسجيل البلاد أعلى معدلات الفساد في العالم حسب منظمة الشفافية العالمية ومن سرقة مقدراته، سطر الشعب العراقي صفحة ناصعة في تاريخه عندما خرج عن بكرة أبيه يعلن رفضه التام لما أطلق عليه العملية السياسية القائمة في ظل خراب الديار منذ احتلال الأمريكان للبلاد والتي كرست نوعًا من الطائفية لم يشهدها العراق في تاريخه الحديث إلا على يد حزب الدعوة الفصيل الأقوى في البلاد والمدعوم أمريكيًا وإيرانيًا.
الشعب العراقي لم يخرج فقط اعتراضًا على الحكم الطائفي والفساد وانتشار الفقر والبطالة والمرض والأمية، بل خرج أيضًا اعتراضا على الانفلات الأمني المستمر الذي جاء انعكاسًا لفشل سياسي لعملية سياسية أخضعت بلد الرافدين لهيمنة الأمريكان ونظام الملالي المجاور الذي كان المستفيد الأكبر من احتلال العراق حيث تمكن طوال السنوات الماضية من اختراق مفاصل الدولة العراقية.
اللافت في المظاهرات التي شهدها العراق أنها انتشرت في أغلب مدنه في الجنوب والوسط والشمال والغرب، بل إن اللافت أن مدنًا ذات أغلبية شيعية في الجنوب انتفضت ضد انهيار كيان الدولة وتراجع دورها الخدمي والأمني والاقتصادي رغم محاولات البعض ثني أبناء هذه المحافظات عن المشاركة في هذه الاحتجاجات استنادًا لفتوى «مرجعيات دينية».
فساد وبطالة وقتل واستبداد
بل إن الأغرب أن هذه المظاهرات انتقلت إلى كبريات مدن شمال العراق مثل أربيل ودهوك والسليمانية بشكل كسر حاجز الهدوء المسيطر على هذه المدن منذ ما يقرب من 8 سنوات حيث خرج الأكراد عن بكرة أبيهم وشاركوا في الاحتجاجات على الفساد والبطالة وانتشار البطالة واستباحة الدماء واستبداد في الرأي في أوساطهم بشكل كبير رغم ما يتردد عن وجود مخصصات كبيرة لهم ضمن الموازنة العراقية وعائدات نفط الشمال ولكن هذه المخصصات لم تسخر لخدمة مواطني كردستان العراق، بل استخدمت لخدمة كبار المسؤولين وبناء القصور والمنتجعات في حين بقى إقليم كردستان بدون فائدة للضمان الاجتماعي رغم سيطرة الحزبين الكبيرين على المنطقة الشمالية منذ عام 1991م.
احتجاجات لتدني الخدمات
وعمت احتجاجات العراقيين وأيام الندم أنهم انتخبوا هؤلاء مناطق الوسط والغرب العراقي ذات الأغلبية السنية اعتراضًا على مجمل الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية وتدني الخدمات وعودة أمراض مزمنة استطاع العراق التخلص منها منذ عدة عقود ومعها عادت الأمية لتضرب في البلاد في دليل لا يقبل الشك على انهيار مؤسسات الدولة.
غياب الأمن
وأدى ارتهان القرار السياسي العراقي لكل من واشنطن وطهران غياب الأمن داخل المدن والمحافظات العراقية دورًا في إشعال موجة الاضطرابات التي كان ملمحها الرئيس «لا للطائفية ولا للفساد ولا للفقر ولا لانهيار بنيان الدولة العراقية».
ولعل من أبرز القضايا التي أبدى العراقيون اعتراضًا شديدًا عليها غياب الروح الوطنية العراقية وتراجع مفهوم المواطنة لصالح الطائفية، فلم يعد مصطلح «عراقي» يشكل أولوية لدى الكثيرين في ظل إمساك الأحزاب الطائفية بتلابيب السلطة في عراق ما بعد الاحتلال لدرجة أن المناصب الوزارية في العراق التي تعد الأكثر في العالم حيث يتجاوز عدد الوزارات 43 وزارة لجأ إليها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لإرضاء جميع الطوائف والأحزاب السياسية دون أن يضع مصلحة الوطن والمواطن العراقي نصب عينيه، فلو أمعنا النظر في تجارب سياسية أخرى لوجدنا مثلاً أن الصين التي يبلغ عدد السكان فيها 1.5 مليار نسمة يصل عدد مجلس الوزراء فيها 16 وزيرًا فقط فيما تجاوز عدد الوزراء في العراق المحتل 43 وزيرًا أغلبهم من غير ذوي الكفاءة، بل إن تقارير عديدة تحدثت عن تولي أشخاص يحملون درجات علمية مشكوكا في مصداقيتها لمناصب وزارية رفيعة.
تنازلات شكلية
تنوع مطالب المحتجين العراقيين سواء في شمال العراق أم في جنوبه أم في مثلث النار في الفلوجة والرمادي وسامراء وغيرها جوبه بمواقف تكتيكية من قبل عناصر العملية السياسية، فقد حاول رئيس الوزراء نوري المالي تطويق الأزمة عبر الإعلان عن عزمه عدم الترشح لولاية ثالثة لرئاسة مجلس الوزراء، بل اتخذ قراراً بخفض راتبه، وهي مواقف قوبلت بالتشكيك من حلفاء المالكي السابقين خصوصًا المجلس الأعلى الذي اعتبر تصريحاته للاستهلاك المحلي بعد أن تعهد منذ سنوات بعدم الترشح لولاية ثانية وتراجع عن ذلك، بل صمم على الاستمرار في السلطة رغم خسارته في الانتخابات العراقية الأخيرة ونظم المتظاهرون خلال الأيام الماضية يومًا للندم على مشاركتهم في هذه الانتخابات التي لم تقدم جديدا للعراق بل كرست من سيطرة دولة الطائفية والفساد والفقر وغياب الإصلاح.
خطوات المالكي التي لم تقنع أحدا أغرت جلال الطالباني للسير في الدرب نفسه حين أعلن عن عزمه عدم الترشح للمنصب الرئاسي لولاية قادمة غير أنه لم يكتف بإعلان عزمه إجراء إصلاحات عدة أطلق تصريحات طائفية وصف فيها كركوك بأنها قدس كردستان التي لا يمكن التنازل عنها، وهو ما عده السياسيون العراقيون نكتة سخيفة لا ينبغي التعليق عليها وكأن الطالباني يريد صب الزيت على النار في بلد يقترب من شفا محرقة، وهو أمر أظهر مدى سيطرة النزعة الطائفية على من يديرون العملية السياسية وسعيهم لاستغلال الأوضاع القائمة لتحقيق أكثر قدر من المكاسب لطوائفهم ولتذهب وحدة العراق واستقراره واستقلاله للجحيم.
ولكن من يديرون العملية السياسية في العراق لا يدركون تبعات وتداعيات حركة الاحتجاجات التي شهدتها المدن العراقية على كافة الأصعدة، حيث اكتفوا بسلاح التصفية والاعتقالات وفرض قيود على الإعلام، وتجاهلوا أن هذه الوسائل لم تعد تجدي نفعًا حيث استخدمتها السلطات في مصر وتونس وليبيا ولم توقف موجة الاحتجاجات ضدهم كأنهم لا يعبأون من قريب أو بعيد ملايين العراقين ومعاناتهم من الفقر والجهل والمرض والأمية وسيطرة النزعة الطائفية.
ولا تقف التحديات التي تواجه رموز العملية السياسية الطائفية عند موجة الغضب التي اشتعلت داخل العراق، وستعيد ترتيب الخريطة السياسية التي أدخلت العراق النفق المظلم ولم تقدم أي تطورات لوقف تخريبه وتفتيته وسرقة مقدراته لدرجة أن تقريرا صادرا عن مجلس الوحدة الاقتصادية العربية قدر المهدر من ثروات العراق بما يتجاوز 100 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية فقط رغم ما يتردد عن مزاعم من حكومات العراق بإقرار ما يقرب من 35 مليار دولار لدعم البنية التحتية في العراق خلال العامين الماضين إلا أن أي متتبع لما يرى لا يشعر بوجود أي تغييرات ذات قيمة طرأت على مثل هذه المؤسسات بل إن أوضاعها تزداد سوءًا سواء كانت صحية أم تعليمية أم حتى فيما يتعلق بعدم قدرة البلاد التي تعد من أبرز منتجي النفط في العالم على توفير الكهرباء والمياه النقية لشعب يرزح أكثر من 40% من مواطنيه تحت خط الفقر.
مهمة صعبة
ولا شك أن مثل هذه المعطيات تؤشر لوضع شديد الصعوبة قد يصعب على بلاد الرافدين اختياره كما يؤكد السفير سعد عزام مساعد وزير الخارجية المصري السابق للشؤون العربية، حيث يرى أن الشعب العراقي قدم من خلال موجة الاحتجاجات الأخيرة تأكيدًا على أن محاولات طمس هويته وإجباره على الخنوع وإخضاعه للهيمنة الأمريكية والإيرانية لم تفلح؛ حيث أثبتت الاحتجاجات فشل العملية السياسية التي راهن البعض على إمكانية نجاحها في إصلاح الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية.
وأضاف: الطغمة الحاكمة في العراق حاليًا هي أساس المشكلة ولا يمكن أن تكون جزءًا من الحل، لافتا إلى أن الحكم الطائفي هو من سيضيع وحدة العراق يؤدي إلى تفتيته، لافتًا إلى أن سيطرة الطائفيين تعيد للأذهان كيف أسهم الحكم الوطني الذي سيطر على العراق أيام الملكية وفترات بعد تأسيس الجمهورية في الحفاظ على هذه الوحدة حيث سيطر على البلاد وفق مفاهيم وطنية وليست طائفية كما يحدث حاليًا، وافتقار رئيس الوزراء العراقي الحالي بأنه أكبر ديكتاتورية وطائفية من كل من سبقوه طوال العقود الست الماضية، بل إن مؤشرات الفساد ونهب مقدرات الشعب العراقي قد تحولت إلى سياسة دائمة للحكومة الحالية وهو ما يرجح معه استمرار موجة الاحتجاجات في العراق حتى إسقاط النظام الطائفي الحالي رغم صعوبة ذلك في ظل الهيمنة الأمريكية الإيرانية.
حكم وطني
وفي الإطار نفسه يؤكد الدكتور السيد عوض عثمان الخبير الاستراتيجي أن العراق لن يعرف الاستقرار في ظل سيطرة الحكم الطائفي عليه، مستنكرًا سعي رموز العملية السياسية إلى الإضرار بوحدة العراق واستقراره وتبني سياسات لإفقار شعبه والقضاء على هويته.
وتابع: العراق غدا في ظل سيطرة هؤلاء منزوع السيادة والقرار بل صار تابعًا لبعض القوى الإقليمية والدولية التي تدير شؤونه بما يخدم مصالحها وهو ما رفضه العراقيون الذين أدركوا أن عودة الحكم الوطني هي السبيل الوحيد لخروج العراق من الأوضاع الصعبة التي يعاني منها حاليًا.
وشدد د. عثمان على ضرورة استمرار موجة الاحتجاجات باعتبار أن نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة هي التي كرست الطائفية والاستبداد والفساد ويجب إلغاؤها إذا كانت هناك نوايا جادة لإنقاذ العراق من مخططات التفتيت والتجزئة.
وانتقد عثمان حالة الغياب العربي الكامل عن التأثير في الساحة العراقية، لافتًا إلى انتفاضة العراقيين وإذا كانت قد شكلت رسالة بضرورة تغيير الخريطة السياسية العراقية فإنها تحث الدول العربية على التدخل وإنقاذ العراق مما يخطط له بدلاً من الصمت على محاولات تفتيته وإفقار شعبه وإعادته إلى القرون الوسطى كما يحلو لبعض المستفيدين من احتلاله.
لاتوجد تعليقات