من أعظم الحقوق بعد حق الله -تعالى-(1) بر الوالدين منهج الأنبياء ودأب الصالحين
إنَّ أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله -تبارك وتعالى-، في عبادته وتوحيده وطاعته، فلا إله إلا هو -سبحانه- ولا رب سواه، وبعد هذا الحق العظيم وهذه الغاية التي من أجلها خلق الله -تبارك وتعالى- الإنس والجن؛ حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، قرن الله -تبارك وتعالى- هذه القيمة العظيمة بقيمة عظيمة أخرى تتعلق بالوالدين، فحق الوالدين يأتي بعد حق الله -تبارك وتعالى.
حق الله -تعالى- وحق الوالدين
فإذا كان لله -تبارك وتعالى- نعمة الخلق والإيجاد، فللوالدين نعمة التربية والإيلاد؛ فلذلك أوصى الله -تبارك وتعالى- بهذا الحق في كتابه كثيرا، بل قرن الله -عز وجل- حق الوالدين بحقه، وما ذاك إلا لعظيم حقهما وكريم فضلهما، قال الله -عز وجل- في محكم التنزيل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وقال في موضع آخر: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وقال في موضع ثالث: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
ثلاث بثلاث
ولذلك قال بعض السلف: ثلاث آيات مقرونات بثلاث وذكروا منها: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، فكما أمر الله -تبارك وتعالى- الإنسان بشكره على إنعامه عليه بخلقه ورزقه وتدبيره، أمره الله -تبارك وتعالى- بشكر والديه، وذلك لإنعامهما على ذلك الولد، وإحسانهما له، فالوالدان هما سبب الوجود، واعتنيا بك منذ استقرارك في رحم أمك إلى أن وُلدت وترعرعت، وتحملَت أمك آلام الحمل والولادة والرضاعة والتربية والتنشئة إلى أن أصبحتَ طفلا ثم صبيا ثم شابا ثم رجلا جلدا تتحمل المسؤوليات، فمن الذي أسدى إليك كل هذا المعروف؟ إنهما الوالدان؛ ولذلك أحق الناس بالبر والإحسان هما الوالدان.
معروف لا تستطيع مكافأته
ولا شك أن هذه النعم وهذا المعروف الذي أسدوه إليك لا يمكن لأحد أن يكافئهما أو أن يجازيهما، كما قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»، ولذلك لما أتى رجل لعمر فقال: أمي عجوز كبيرة، أنا مطيتها، أجعلها على ظهري وأنحي عليها بيدي، وألي منها مثل ما كانت تلي مني - أي أرعاها مثل ما كانت ترعاني- أوأديت شكرها؟ فقال له عمر: لا، قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين، قال - صلى الله عليه وسلم -: إنك تفعل ذلك بها وأنت تدعو الله أن يميتها، وكانت تفعل ذلك بك وهي تدعو الله أن يطيل عمرك، هذا هو الفرق بين الأم وبين الولد، ولقي كذلك ابن عمر رجلا في المطاف يحمل أمه على ظهره يطوف بها فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة.
لماذا حق الوالدين عظيم؟
وهنا يأتي التساؤل لماذا حق الوالدين عظيم؟ لِما ذكرنا أنهما تحملا شديد المعاناة، وضحيا في سبيل إسعاد أبنائهما، فكم تعبا وبذلا وقدما، ولاسيما الأم الحنون، تلك المربية المشفقة، قالب الحنان والعطاء المتدفق بفيض الرحمة والإحسان، عطفها ملء قلبها، حملتك بين أحشائها تسعة أشهر، ويعلم الله ما تعانيه من آلام وثقل الحمل، فضلا عن آلام الطلق والوضع، ومتاعب المخاض كما قال الله -تعالى- {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}، تقاسي هذه الأم من الأسقام والآلام ما الله به عليم، بل إنها لتشاهد الموت وهي تعالج آلام الطلق والإنجاب، ثم متاعب الرضاعة حولين كاملين، ثم هي بعد ذلك تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، وكم تجرعت الآلام لتحقق أحلامك، وتترك كثيرا مما تشتهيه خشية ضرر يصيبك أو يعتريك، رحيمة بك، شفيقة عليك، بل إنها تتمنى أن تموت لتحيا أنت! فقد كان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، وتود أن تقبل المنية دونك فداء، وتستمر معها المتاعب حتى بعد أن تشب وتكبر وتصير رجلا وزوجا ذا أولاد. فهي تبحث عنك دائما وتفتقدك، وتتفقد أحوالك، ويسوؤها ما يسوؤك، ويحزنها ما يحزنك.
أما الأب الغالي فهو المُوجّه القيّم، والمربي الفاضل، يسعى ويجد، ويكدح ويكد، وينفق ويربي ويشفق، يحرص على تغذيتك ويعولك حتى تكبر، يفرح للقياك، وإذا غبت عنه سأل عنك وينتظر مجيئك، إذا رآك تبسم، وإذا انقطعت عنه تألم، كم بذل لتعليمك وتنشئتك وتغذيتك وتربيتك! فجزى الله الوالدين على عظيم صنيعهما.
بر الوالدين في السنة النبوية
أما السنة فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بر الوالدين -هذه القيمة العظيمة- قرينة للصلاة عمود الإسلام، ومتقدما على الجهاد ذروة سنام الإسلام، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت:ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله». وروى البخاري ومسلم أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد».
ومن هذه الأدلة والنصوص الكثيرة المتكاثرة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يتبين أن بر الوالدين فريضة لازمة، وفضيلة جازمة، وجوبها حتم، وأداؤها عزم، ولا عذر لأحد في التساهل في هذا الحق العظيم، والتهاون بشأن بر الوالدين.
فالدين والشرع، والعقل والنقل، والمروءة والرحمة، ورَد الجميل والإنسانية، كلها دلائل على ضرورة القيام بهذه القيمة العظيمة على الوجه المطلوب.
رضا الله -عز وجل
فمن يبحث عن رضا الله -عز وجل- فليُرضي والديه، وليُحسن إليهما، عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد»، ما من أحد منا إلا ويبحث عن الجنة، وأقرب طريق إلى جنة الله -تبارك وتعالى- هو برك بوالديك.
من أسباب استجابة الدعاء
بر الوالدين من أسباب استجابة الدعاء، فهذا أويس القرني -رحمه الله- من التابعين، ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأن من أعظم صفاته بره بأمه حتى أصبح من الذين لو أقسم على الله لأبرّه؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «سيأتي وفد من اليمن فيهم أويس بن عامر القرني، فإن أدركته فاسأله أن يستغفر لك»، يقول عمر - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، ثم يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبرّه، فسبب استجابة الدعاء له من الله -سبحانه وتعالى- بره لوالدته.
هل فيكم أويس؟
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه -، وتعرفون من عمر، ثالث رجل في هذه الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد أبي بكر في الفضل والمكانة والدرجة العالية، يقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، لمجرد أنه كان بارا بأمه، ولأنه لو أقسم على الله لأبرّه، لذلك كان عمر - رضي الله عنه - يتحين كلما جاء نفر من اليمن سأل هل فيكم أويس؟ حتى وجده وسأله: أنت أويس بن عامر، قال: نعم، قال: من مرادٍ ثم من قرن، قال: نعم، قال: وبك برص فبُرئت منه إلا موضع درهم، قال: نعم، قال: ولك والدة أنت بارٌ بها، قال: نعم، فأخبره بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من دلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُخبر عن أحوال الناس بعد مماته - صلى الله عليه وسلم .
منهج الأنبياء والمرسلين
كما أن بر الوالدين هو منهج الأنبياء والمرسلين، وعمل الكرام الصالحين، يقول الله -تبارك وتعالى- عن عيسى -عليه السلام-: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}، ويقول عن يحيى بن زكريا -عليهما السلام-: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}. والدعاء للوالدين أحياءً وأمواتا دأب المؤمنين المتقين، يقول الله -سبحانه وتعالى- عن نبيه نوح -عليه السلام-: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}.
لاتوجد تعليقات