محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث – أثر الإيمان في بناء الشخصية المسلمة- الحلقة الثانية
ما زلنا في استعراض محاضرات المنتدى الرمضاني الثالث، ومحاضرة الشيخ شريف الهواري التي كانت بعنوان: (أثر الإيمان في بناء الشخصية المسلمة)؛ حيث أكد الشيخ أنَّ تعميق الإيمان في القلوب هو أساس بناء الشخصية المسلمة؛ فمنه تتعمق القيم الفاضلة، والأخلاق الحسنة، كما ذكر أنَّ الإيمان واسطة العقد بين مقامي الإسلام والإحسان، وأنَّ الإنسان لن يستطيع الإذعان والتسليم والانقياد للإسلام ولما جاء به بإحسان إلا من خلال مقام الإيمان، وبين أنَّ الإيمان قول وعمل، قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان.
وللإيمان أصل يزول بزواله، وله كمال واجب وكمال مستحب، عند أهل السنة والجماعة؛ فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لذلك إذا نجحنا في تحقيق الإيمان بحيث يقر في قلوبنا؛ فبفضل الله -تبارك وتعالى- سنستطيع من خلاله الثبات، والقدرة على البذل والتضحية والأداء المتميز، وبعون الله وتوفيقه سنؤدي الواجبات والحقوق في أمثل صورها؛ بما لدينا من قاعدة إيمانية قوية.
الإيمان بربوبيته -سبحانه وتعالى
كيف تؤمن بربوبية الله -سبحانه وتعالى؟ قال السلف: الإيمان بربوبيته -سبحانه وتعالى- يستلزم الإيمان بكونه الخالق أي الموجد من العدم، وكذا الإيمان بكونه المالك -سبحانه وتعالى- والمدبر، أي هو المعطي والمانع، والخافض والرافع، والمعز والمذل، والقابض والباسط، والرزاق والمحي والمميت، رب هذا الكون والمتصرف فيه، لا شريك له.
أثر الإيمان بربوبيته -سبحانه وتعالى
والذي يتأمل معنى الإيمان بربوبية الله -تبارك وتعالى- من خلال هذا المضمون، لا شك أنه سيزداد لديه قدر التعظيم والإجلال والتوقير والتقدير والإذعان والاستسلام والخضوع لمعرفة الرب -سبحانه وتعالى-، وهذه المعاني لها أبلغ الأثر على الإنسان في حياته؛ فتعطيه العزة والأنفة والقوة والطمأنينة والسكينة واليقين والثقة والأمل؛ لأن الأمر بيد الرب -سبحانه وتعالى- والذي لا شريك له في مُلكه.
الإيمان بأسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى
كيف تؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا؟ كيف تتعبد إليه بمقتضاها؟ كيف تجعل لنفسك منها نصيبا حتى يؤثّر على حركتك في أداء دورك في هذه الدنيا.
اسم الله (العليم)
وإذا تأملنا على سبيل المثال اسم الله (العليم)، نجد أن الإيمان بهذا الاسم العظيم يقتضي أن تكون على يقين بأنه -سبحانه- قد وسع كل شيء علما، وقد أحاط بكل شيء علما، وأنه -سبحانه وتعالى- يعلم السر وأخفى، يعلم الغيب والشهادة، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لِمَ لا؟ وهو بكل شيء عليم -سبحانه وتعالى-، يعلم ما كان وما لم يكن وما سيكون لو كان كيف يكون، إنَّ أثر الإيمان بهذا الاسم على العبد لا شك عظيم جدا.
كيف تسمو وترتقي بإيمانك؟
كيف تسمو وترتقي بإيمانك من خلال اليقين بهذه الأسماء الحسنى؟
لا شك أن هذه الأسماء ستوصلك إلى أعلى مقامات الإيمان، كما في الأثر، يأتي الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيسأله: «أي الإيمان أعظم؟ قال: أن تعلم أن الله معك حيثما كنت»، الشعور بعظمة علمه وسمعه وبصره ورقابته -سبحانه وتعالى-، ولذلك هو أعظم الإيمان الذي يلازم الإنسان حيثما كان في أي وقت، في أي مكان، على أية حال، في رضا، في غضب، في سفر، في حضر، في سر، في علن، في بيته، في طريقه، في سوقه، في كل أحواله يستحضر هذا المعنى العظيم؛ ولذلك يؤدي هذا إلى الاستسلام والخضوع والانقياد والحياء وأداء الواجبات والحقوق.
الركن الثالث: الإيمان بالملائكة
الركن الثاني من أركان الإيمان هو الإيمان بالملائكة، هذا المخلوق العظيم، صاحب القدرات العظيمة، الذي خُلِقَ من نور، وأُمِر بإدارة بعض شؤون الكون من أجلك أيها العبد، هذا المخلوق العظيم له مهام يقوم بها عظيمة جدا جدا تقوم عليها حياتك، ناهيك أنه يوجد ملائكة للقطر، وللنبات، والجبال، ورقيب وعتيد، والكرام الحافظين.
فما أثر الإيمان بهذا الاسم؟ لا شك أنَّ الإيمان بالملائكة سيزيدك تعظيما لمن خلق هذا المخلوق العظيم، وستكون موقرا ومقدرا ومستحيا من هذا المخلوق العظيم، ولعلك تتعلم من جميل إذعانه للخالق -سبحانه وتعالى-، وأدائه لما يُؤمر به {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}، لعلك تتمثل هذه المعاني الجميلة والراقية والفريدة بفضل الله -تبارك وتعالى- التي من شأنها أن تجعلك أكثر التزاما وانضباطا باستحضارك لرقابتهم ولملازمتهم ولعظيم أدوارهم، هذا لا شك سيجعلك إنسانا مثاليا منضبطا في كل لحظات حياتك؛ بإيمانك العظيم بوجود هذا المخلوق العظيم صاحب القدرات العظيمة.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب
الإيمان بالكتب كصحف إبراهيم وموسى، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، يجعلك مُعظّما لربك أكثر، لامتنانه على عباده بهذه المناهج المباركة، غير أنَّ الناس حرّفوا وغيّروا وبدّلوا، لكن بفضل الله -تبارك وتعالى- حُفِظَ هذا المنهج العظيم -القرآن-، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
فكيف تؤمن بهذا القرآن؟ أولا: تؤمن بأنه كلام الله غير مخلوق، المنزّل على قلب نبيه -عليه الصلاة والسلام- بواسطة جبريل الأمين -عليه السلام-، بوصفه منهج حياة كاملا متكاملا، غنيا بنفسه مستغنيا عن غيره، كما أخبرك -تبارك وتعالى-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، ليس هذا فحسب، بل بيّن -تبارك وتعالى- في غير موطن: {وفصلناه تفصيلا}، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} آيات في الباب عظيمة جدا.
كيف نُفَعّل الإيمان بالقرآن في قلوبنا؟
والسؤال: كيف نُفَعّل الإيمان بالقرآن في قلوبنا؟ وذلك من خلال تعظيم كلام الرب -سبحانه وتعالى-، ومن خلال الإذعان والتسليم التام لكتاب الله -تعالى-، من خلال العمل بما جاء فيه، وعقد الولاء والبراء عليه.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل فيه إشارة لعظيم رحمته -سبحانه- بعباده، وفضله عليهم، وامتنانه عليهم بإرسال المثال والأسوة والقدوة لهم ليُحسنوا تطبيق الغاية التي من أجلها خلقهم -سبحانه وتعالى-، فالمولى خلقنا لغاية، وسخّر لنا ما في كونه، وأسبغ علينا النعم الظاهرة والباطنة، فامْتَنّ علينا بهذا المثال المبارك، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وعلى وجه الخصوص {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
فلو تأملنا مثلا {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} الذي آمنا بوجوده، وآمنا بربوبيته، وآمنا بأسمائه وصفاته، وآمنا بملائكته، وآمنا بكتبه، إن كنا صادقين في ذلك، ونرجو النجاة في اليوم الآخر فعلينا أن نُسلّم له القيادة، ثم تجد القرآن يشير إلى هذا المعنى إشارات لطيفة، أولا- {وإن تطيعوه تهتدوا}، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. ثم تجد الأوامر المباشرة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، ثم تجد التحذير {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ..} الآيات التي نحفظها جميعا. ثم تجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص لنفعل هذا الإيمان كما ينبغي «من عَمِلَ عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رد»، «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد». «من رغب عن سنتي فليس مني». «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، فقالوا: من يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».
كيف نُفعِّل الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلوبنا؟
كيف نفعل الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلوبنا؟ كيف تحقق المتابعة المستدامة؟ كيف تُسلّم نفسك لقيادته؟ كيف تسمع وتطيع له في صغير الأمر وكبيره؟ كيف تحرص على ألا تحيد عن منهجه -عليه الصلاة والسلام؟
إذا نجحنا في التسليم لهديه - صلى الله عليه وسلم - في كل شأننا، في مظهرنا وفي مخبرنا، في أقوالنا وفي أفعالنا، في بيوتنا ومع نسائنا، ومع أبنائنا، ومع أرحامنا وجيراننا، ومع زملائنا وأصدقائنا، وفي طريقنا وفي سوقنا، وفي مدرستنا وجامعاتنا، وفي أشغالنا وأفراحنا وأحزاننا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي أخلاقياتنا وسلوكنا، هذا هو التفعيل الحقيقي، هذا هو الإيمان الذي يرجى من ورائه بناء الشخصية المسلمة، أن تسلّم التسليم الصحيح لنبينا -عليه الصلاة والسلام- في كل أمره.
لاتوجد تعليقات