محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث – العدل وأثره في إصلاح المجتمع – الحلقة الثانية
ما زلنا في استعراض محاضرات منتدى تراث الرمضاني، وكنا بدأنا في عرض محاضرة الشيخ فتحي الموصلي التي كانت بعنوان: (العدل وأثره في إصلاح المجتمع)، وقد بين الشيخ أنَّ العدل من القيم العظيمة التي نحتاج إلى تحقيقها بوصفها قيمة إسلامية بمعناها الشرعي والمجتمعي، ثم بين الشيخ مفهوم العدل وحقيقته وثمرته، كما ذكر أصولا عدة لتحقيق العدل، منها: تحقيق العدل في باب التوحيد، والعدل مع النفس، والعدل في الواجبات العينية، ثم بين شمول العدل وكماله.
أولا: العدل مقترن بالتوحيد
من يتأمل في نصوص القرآن والسنة يلحظ أن العدل جاء مقترنا بالتوحيد، {قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}. القيام لله أي إفراده بالعبادة وشهادة بالعدل في الأخبار َفي الأحوال.
ثانيا: العدل مقترن بالعلم
منهج أهل السنة والجماعة في معاملة الآخر قائم على العلم والعدل، ليس على العدل أو العلم فقط، قال الله -تبارك وتعالى-: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، أي أن الغالب على الإنسان أنه ظلوم جهول، وهذا وصف افتقار؛ فالإنسان بحاجة إلى أمرين: العدل الذي يرفع به ظلمه، والعلم الذي يرفع به جهله؛ ففي شريعتنا لابد أن يقترن العلم بالعدل، فالأمم التي سادت في الأرض، والأمم التي كسبت الدنيا هي الأمم التي حكّمت قيم العلم والعدل في واقعها؛ لأن العدل أمانة للآخرة، وحفظ لنظام الدنيا، وحفظ لوجود الأمة.
ثالثا: العدل مقترن بالصدق
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} حمل العلماء هذه الآية فقالوا: صدق في الأخبار، وعدل في الأقوال والأعمال، وشريعة كاملة، وأخبارها صادقة، وأحكامها عادلة.
رابعًا: العدل اقترن بالإحسان
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، ليس فقط أن تعطي الحقوق المستحقين بل والإحسان إليهم.
خامسا: العدل جاء مقترنا بالأمانة والامتثال والطاعة.
العدل السلفي
وأعني به العدل القرآني السني الأثري، الذي كان على نهج السلف في الفهم الشرعي الدقيق، ولا أريد أن أذكر السلفية لمجرد الانتساب والتفاخر، إنما ذكرتها لبيان المعنى الصحيح الشرعي الشامل الذي سار عليه علماء السلف في مفهوم العدل، وعدل مقترن بهذه الخصال الخمس: عدل مع التوحيد، وعدل مع العلم، َوعدل مع الصدق، وعدل مع الإحسان، ثم عدل مع حفظ الأمانة وبذل الطاعة.
هذا العدل هو الكامل الشامل الذي لو سُئلنا: كيف كان العدل عند السلف؟
قلنا: هذا هو هداهم، سواء في القيام بواجباتهم أم بالقيام ببذل الحقوق لغيرهم، أم في معاملة المخالفين لهم.
تعامل القرآن مع المخالفين
فعندما تعامل القرآن مع المخالفين تعامل بعدل وتوحيد وصدق وعلم وإحسان وحفظ للأمانة، حتى صار مثالا يُحتذى به، فنحن لا نحقق هذه المعاني ولا سيما مع الآخر، سواء كان كافرا أم منافقا أم مبتدعا أم ضالا أم مخالفا مخالفة علمية؛ فلابد من التعامل مع هذا الواقع حتى نحقق قيم العدل في أنفسنا ومع غيرنا.
ومن لم يحقق هذه القيم: التوحيد، والعلم، والصدق، والإحسان، ويحفظ الأمانات ويبذل الطاعة لمستحقيها ولأهلها، لا يتمكن من تحقيق العدل؛ فالشريعة لا تقبل عدلا من غير صدق، ولا تقبل عدلا من غير علم، ولا تقبل عدلا من غير إحسان؛ لأنها شريعة في كل جوانبها وأجزائها هي شريعة قيم، وشريعة حضارة، وعمل؛ من هنا نحتاج إلى أن يتأصل عندنا العدل بهذه المعاني الدقيقة والمفاهيم الجليلة.
وقفة مهمة
وهنا وقفة مهمة، فالدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وهذه قاعدة ترددت على لسان العلماء قديما وحديثا؛ ولهذا قالوا: إن الله ينصر العادل الفاجر على الظالم المسلم، وهنا يجب أن ندرك أن بعض الأحكام الكونية القدرية والشرعية ترتبط بالأسباب، أي أن الله -تعالى- جعل لكل شيء قدرا وسببًا، فالله -تعالى- قدّر أن النصر الدنيوي يتحقق بالعدل لا بالظلم.
حقيقة مهمة
ويجب أن ندرك حقيقة من الحقائق المهمة وهي أن كل قيمة من القيم التي تُدرّس وتُعلّم لها ميزة وخصّيصة، ومن خصائص العدل أن الترتيب في الأمور الدنيوية يكون منوطا بالعدل، وليس بالضرورة بالإسلام؛ لأن المسلم لو كان واليا ولم يحقق العدل لا يتمكن، وقد نرى كافرا يحقق العدل فتكون الدنيا له.
لهذا أدرك أهل الولايات والمماليك قديما وحديثا أن بقاء سلطانهم وثبات ملكهم في إقامة العدل، وهذا لأهمية العدل، ولكن هذه الخصيصة هي من حظ الدنيا لا من حظ الآخرة، لا يكفي في الآخرة أنك تأتي عادلا، لابد أن يكون مع عدلك الإيمان والإسلام. ولا يكفي أن تكون في الآخرة عادلا، لابد حتى تنال الفردوس أن تكون محسنا.
فالعدل من أسباب دوام الدنيا، وهذا التمكين لا يكون في الدول فقط بل هو تمكين في كل ولاية، والمؤسسات، والجمعيات، والمراكز، ومركز التحفيظ، حتى يدوم لابد من إجراء أعمالهم الإدارية وتصرفاتهم اليومية على العدل، سواء بين المدرسين أم بين المتعلمين.
لماذا تأخرت الأمة؟
وعند دراستنا لضعف الأمة، وسبب تأخرها، ولماذا قوتها لم تدم لها؟ من أسبابها انتقاص العدل، لما انتُقص العدل، انتُقص التمكين، وإذا زال العدل، زال التمكين، هذه سنة قدرية كونية هي من خصائص هذه القيمة الشرعية؛ لهذا نرى بعض غير المسلمين يجتهدون في إقامة العدل في محاكمهم وأنظمتهم، ليس تدينا، ولا تعظيما للعدل في ذاته؛ إذ لو كانوا معظمين للعدل في ذاته ما ظلموا في سائر تصرفاتهم مع خصومهم، وإنما عظّموا العدل وامتثلوا له وألزموا أنفسهم به؛ بسبب أنهم أدركوا أن تمكين الأرض لا يكون إلا به، وأن دوام ملكهم لا يكون إلا بإقامة العدل.
التربية على هذا المعنى
المؤمن أيضا مطالب في سنن الدفع، إذا أردنا أن نقيم جيلا إيمانيا، أو جيلا قرآنيا من غير أن يؤسس ويُربى على هذا المعنى فلا يكون لنا النهوض ولا التمكين، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}، ليس فقط أن المانع من دفع الله عن المؤمنين الكفر، إنما الخيانة، والخيانة من باب الظلم؛ لأن الأمانة هي قرينة العدل، هذه المفاهيم تأسست في نفوس الجيل الأول؛ لهذا تمكنوا في الدنيا وتشوّفوا إلى الآخرة، فجمعوا السعادتين؛ لأنهم تعاملوا بالعدل على أنه من أسباب التمكين في الأرض، وتدينوا به، وجعلوه قيمة، وتقربوا إلى الله بتحقيقه، وحققوه بمعناه الشامل العام، لهذا وصلوا إلى الكمال، وهذا هو السر كما جاء في الحديث من السبعة الذين يظلهم الله في ظله قال: (إمام عادل)، ارتقي إلى أن يكون في ظل الله يوم القيامة بأنه حقق هذا المعنى. ولم يكن هذا الإمام يحقق العدل لبقاء ملكه، إنما لدوام إيمانه ووصوله إلى الغاية.
إذا كان هذا هو المعنى الشامل للعدل، فتطبيق العدل في واقعنا اليوم لا يكون فقط في المحاكم والخصومات والنطق بكلمة الحق، إنما العدل أيضًا يكون في التعامل مع أهل الشرائع، والعدل مع الكفار، والعدل مع أهل البدع، والعدل مع المخالفين، والعدل مع العاملين في واقع الدعوة؛ فعندما نبخس حقوقهم ونخرجهم من دائرة السُّنة بزلة أو لخطأ، هذا محض الظلم.
لاتوجد تعليقات