4 قواعد في فهم الواقع وفقهه
إن من متطلبات المفتي معرفتَه بالواقع داخليًّا وخارجيًّا، معرفةً دقيقة جدًّا؛ لكي يُصدِر حكمًا صحيحًا؛ فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّرِه، وهذا ما يُعرَف بـ(فقه الواقع)، أو (فقه الأحوال المعاصرة)، داخليًّا وخارجيًّا، وما يجب على الشخص تجاه واقعه الذي يعيشه، كلٌّ بحسب طاقته وقدرته، والله -عز وجل- يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:55)، وحتى يستطيع الداعية فهم الواقع والفقه لابد له من أمور نذكرها خلال هذا المقال.
القاعدة الأولى: أن يكون بصيرا بزمانه عارفا بأوانه
إن من واجب المفتي أن يكون بصيرا بزمانه، عارفا بأوانه، فاهما لواقعه، حتى تكون فتاواه مبنية على تصور سليم، واستنباط قويم، وقديما قال أهل العلم: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والمفتي الذي لا يعرف الواقع الذي يفتي فيه، يخطئ في كثير من فتاويه، ويعرض الناس إلى النفرة من الدين، والبعد عن محجة المتقين، قال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
- أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
- والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا.
فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسب ذلك إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله، وعلى هذا: فالفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يُلقي العداوة بين الواجب والواقع، «فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم».
القاعدة الثانية: فهم مقاصد الشريعة
إن مراعاة مقاصد الشريعة أمر تشهد له قواعد الشريعة، وقد كانت هذه المقاصد محل اعتبار لدى الأئمة المجتهدين، والعلماء المحققين؛ ولهذا وجدنا جمهور أهل العلم يقررون أن الأحكام بمقاصدها، على تفاوت بينهم في مدى الأخذ بهذا المبدأ؛ ذلك أن نصوص الشريعة وأحكامها معللة بمصالح ومقاصد وضعت لأجلها، فينبغي عدم إهمالها عند تقرير الأحكام.
القاعدة الثالثة: معرفة مواضع الاختلاف
إن البصير بمواضع الاختلاف، العالم بمدارك العلماء، المتأمل في أدلتهم، الواقف على استنباطاتهم، حري به أن يتبين له الحق في النوازل العارضة، والوقائع المتجددة، فيفتي بأقواها حجة، وأقومها محجة. وقد تضيق بالناس الأحوال، وتتكافأ فيها الأقوال، فيختار منها ما يُصلح حالهم، ويخرجهم من حرجهم؛ لهذا جعل كبار العلماء العلم معرفة الاختلاف، حتى قال قتادة: «من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه».
- وقال عطاء: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكونه عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه».
- وعن مالك: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليّ.
- وعـن سـعيد بن أبـي عـروبة: مـن لم يسـمع الاختـلاف فلا تعده عالما، قال الشاطبي بعد هذه الأقوال: «وكلام الناس هنا كثير، وحاصله: معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف، ومعرفة ذلك إنما تحصل بالنظر، فلابد منه لكل مجتهد، وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر».
القاعدة الرابعة: القصد والاعتدال
إن «المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهـود الوسط فيما يليق بالجمهـور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ ذلك أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط؛ فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع؛ ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين.
وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين، وقد رد - عليه الصلاة والسلام - التبتل، وقال سعد بن أبي وقاص: «رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل»، وقال لمعــاذ لما أطال بالناس في الصـــلاة: «أفتّـــان أنت يا معاذ!»، وقال: «إن منكم منفِّرين»، وقال: «سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا»، وقال: «اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله تعالى - أدومه وإن قل»، ورد عليهم الوصال، فقال: «لا تواصلوا».
تطبيق حكم المفتي على الواقع
قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-: الواجب على المفتي أن يعرف موضع الفتوى، ولا يفتي إلا على بصيرة، حتى يطبق الحكم على الواقع، وهكذا شأن العلماء عندما يفتون إذا عرفوا الواقع، فإذا سأله سائل عن الطلاق يستفصل: كيف الطلاق؟ كيف وقع الطلاق طلقة أو طلقتين؟ وكيف حال المرأة، هل كانت في حيض أو نفاس؟ يستفصل حتى يطبق أحكام الله كما شرع الله، لابد أن يكون عنده بصيرة، وإذا سأله السائل قال: إنسان قتل آخر، يستفصل كيف قتله؟ قصاصًا، أو دفاعًا عن نفسه، صال عليه؟ كيف قتله؟ إنْ كان دفاعًا عن نفسه، قد صال عليه، ودافعه، لم يستطع السلامة إلا بدفعه عن النفس ما يضمنه؛ لأن الصائل يدفع بالأسهل فالأسهل، إن كان قتله في حد مع القاتلين مثل: الزاني، فأمر ولي الأمر بإقامة الحد عليه، فقتله مع الناس، فرجمه مع الناس، هذا معذور، مشروع ما عليه شيء، رجمه مع الناس بإقامة الحد، وهكذا فعل العلماء يفهمون الواقع، هذا شيء تحصيل حاصل، المفتي هكذا يكون، من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، المفتي لابد يعرف موضع الفتوى، ويكون على بصيرة في الفتوى، حتى لا تقع الفتوى في غير محلها، لا يتسرع في الفتوى على غير بصيرة، لابد يعرف السؤال، ويكون على بصيرة في السؤال، ومحل السؤال؛ حتى تكون الفتوى مطابقة للواقع.
لاتوجد تعليقات